وقفت إحدى "غريماتي" ذات يوم، بعد أن جمعت كل ما أوتت من قوة، واستحضرت ما استطاعت من الطاقات السلبية المخزونة بداخلها، ثم حدقت إلي بنظرة صفراء، وقالت: "بتعملي ايه دلوقتي..بقيتي ربة منزل". قالتها بالضبط وكأنها توجه إلي نوعاً من السباب، وكأن "ربة منزل" هذه شيء قليل الشأن، لاقيمة له ولا دورعظيم يستحق التقدير.
كنا زملاء في سنوات العمل التي سبقت زواجي، توقفت أنا عن لعب دور المرأة العاملة، واخترت أن أتفرغ لألعب دور الزوجة والأم، بينما هي مازالت تمارس دور الـ"سترونج اندبندنت وومن"، كما هو دارج الآن ..
حسناً، ليلعب كلاً الدور الذي يريد في الوقت الذي يريد، ولكن سأحاول الحديث عن الأمر من زاوية أكثر عمومية من ذلك الموقف الشخصي.
بداية أكاد أجزم أن هذه هي نظرة مجتمع كامل لمصطلح"ربة منزل". مجتمع كامل مصرياً كان أوعربياً قد وضع "ربة المنزل" في مكانة إجتماعية وثقافية وتقديرية أقل بكثير من تلك المرأة العاملة.
فـ"ربة منزل"- بحسب نظرة المجتمع هذه- تعني أنك إمرأة عادية ينحصر عالمك في أوقات طويلة تقضينها في مطبخك بين حبات الطماطم، وشرائح البصل، ورائحة الثوم.. في تسوية الدجاج وصينية البطاطس.. في متابعة برامج الطبخ أو مسلسلات طويلة ومملة وبلا مضمون، وأحياناً قد يرسم لكي هذا المجتمع صورة إمرأة بجلباب رث، وشعرغيرمرتب تخفين أغلبه تحت "إيشارب" برابطة معينة كأنك تعانين صداع الرأس.
في نظر هذا المجتمع أنتي بإختصار إمرأة جداً تقليدية منعزلة عن العالم وتطوراته، وإذا تحدثتي من الآن وحتى الغد عن أعمال المنزل المرهقة التي لا تنتهي، عن رعايتك لأطفالك وكم أخذت من راحة بدنك وحريتك الشخصية، – حتى أصبح فعل بسيط وطبيعي مثل النوم، شيء لست أنتي وحدك صاحبة القرار فيه-، فإنك لن تجدي من هذا المجتمع التقدير ذاته الذي تلقاه إمرأة تذهب كل يوم إلى عملها أياً كان.
هذا المجتمع قرر في وقت سابق أن يعتبر عالمكي الصغير داخل المنزل، أمراً سطحياً، عادياً ، ليس فيه بطولة تذكر، طالما أنكي لم تخرجين إلى معركة الشارع، لم تكفري سيئاتك في المواصلات، لتذهبي إلى مكتبك وتجلسين على مقعدك الخاص مصوبة عينيك وتركيزك على شاشة الحاسوب، لتغيري من بعدها مسار الكون وتحدثين الأثر المنشود.
أعلم جيداً ما يحققه العمل للمرأة من شعور بالقوة والاستقلالية، من مكانة وتقدير ممن حولها، لكني أعلم أيضاً ما يأخذه العمل مقابل ذلك..
أعلم كم يترك جسدي منهكاً لايقوى على فعل شيء في نهاية اليوم، وخاصة بعد رحلة شاقة في وسائل مواصلات ليس فيها أدنى مقومات الراحة، ولا تخلو أبداً من خنقة الزحام.
أعلم كم يسرق العمل من وقتي يومياً، فلا أجد وقتاً كافياً لأقوم بأفعال أخرى، أشعر فيها بمتعة الحياة، كالجلوس مع عائلتي كثيراً، والتحدث إليهم في جو أسري دافيء، كقراءة الكتب والإبحار في عوالم الخيال، ومشاهدة فيلمي الأجنبي المفضل الذي أحاول من خلاله أن أكتسب لغة جديدة، وأشاهد ثقافات مختلفة، وبلاد لم أذهب لها يوماً، كالخروج في نزهة أستمتع فيها بالشمس والسماء مع صديقة مقربة، نتحدث في أمور شتى.. نضحك.. نستعيد ذكرياتنا معاً، بصحبة كوبان من القهوة.
أعلم جيداً أن يوم إجازة واحداً كل أسبوع لن يمكنني من كل هذا، أعلم أنني لن أفعل فيه شيئاً سوى محاولة الراحة والنوم. لقد كان العمل يسرق مني كل هذا وأنا التي لم أكن وقتها قد تزوجت وأنجبت بعد، لم أكن أتحمل مسئولية بيت كاملة بمفردي، ترى كيف يمكن تدبر الآمر الآن؟! وإذا سلمنا بأن محاولة التوفيق بين حياتنا الأسرية وحياتنا العملية ليس أمراً مستحيلاً، فعلينا أن نعي جيداً أن لكل شيء ثمن، وثمن باهظ.
لبعض الوقت أشعرو- لسوء حظنا كنساء- كأن العالم قد تآمر علينا، ووضع لنا قالب مثالي أوحد نشعر من خلاله بأهميتنا ودورنا المؤثر في هذا المجتمع وتقديرنا لذواتنا، بحيث لا يكفي أن تلعبي دور الزوجة والأم، لا يكفي أن تكوني "ربة منزل"، تتعلم وتجتهد لتنشيء جيلاً سوي نفسياً ودينياً وأخلاقياً.
لا يكفي أنك تحاربين فكرة الانغلاق على نفسك بأمور مثل الأعمال التطوعية، وتكوين الصداقات، و أنك تحاربين صدأ العقل بكثرة القراءة والإضطلاع، بحضور ندوة هنا، أو ورشة عمل هناك، عليكي أن تكوني إمرأة عاملة بالأساس، حتى تحصلين على تقديرك لذاتك، وبالطبع عن تقدير المجتمع.
نعم أشعر أن العالم تآمر علينا، وأرى ثمرة ذلك في وجود فريق كبير من النساء تزوجن ولم يعملن، يعشن صباح مساء في حالة من تأنيب الضمير وعدم الإرتياح، بل وربما جلد الذات فقط لأنهن لا يعملن.. فقط لأنهن لا يمارسن دور الـ"سترونج اندبندنت وومن"، وأقول هذا عن تجربة فأنا أعلم الكثير من الزميلات والصديقات "المتزوجات" يعشن هذه الحالة بالفعل، لدرجة أن بعضهن ارتضين تحمل ضغوطات العمل إلى جانب مسؤلياتهن المنزلية الثقيلة، ليس لشيء سوى للتخلص من فكرة جلد الذات وأنهن "لم يعلقن الشهادة عالحيط"، والحصول على نظرة التقدير المجتمعية هذه.
أتذكر جيداً ذلك اليوم الذي زرت فيه إحدى صديقاتي- وكنت وقتها مقبلة على الزواج- وكانت والدتها تجلس معنا، ويبدو أنها أرادت أن تعطيني نصيحة قبل الدخول إلى حياة جديدة، فقالت لي "لو هتتجوزي متشتغليش…هتتعبي".
قالتها وهي السيدة الفاضلة التي كانت وقتها تقترب من سن المعاش.. قالتها بأسى وبصدق شديد لمسته في نظرات عينيها وقسمات وجهها، وكأنها الأم التي شربت من كأس مر ولا تريد لابنتها أن تتذوقه.
أتذكر منشور لزميلة عزيزة على "فيس بوك"، أجبرتها الغربة على أن تعمل من المنزل إلى جانب زوجها، كان عبارة عن أمنية وهي أن تستيقظ كل صباح غير حاملة لعبء ساعات العمل التي ستقضيها أمام الـ"لاب توب"، غير مضطرة أن تنهر أبناءها وهم يلعبون حولها، وتصرخ فيهم حتى يتركوها تنهي عملها بتركيز، كان مفاداه ماذا لو أمضت هذه الأوقات تلعب مع أطفالها وتضحك وحسب؟
ليس المقصد من حديثي هذا هو أن "أجلسن معشر النساء جميعكن في المنزل، ولا تعملن"، فأنا أعلم جيداً أن من بيننا الكثيرات المضطرات للعمل سواء بدافع مادي أو معنوي، ولست بالطبع أنكر أو أتجاهل حاجة المجتمع للرائدات الناجحات في مجالات العمل المختلفة.
لكن ما أقصده هو الرفض التام لمحاولات التقليل من فكرة المرأة "ربة المنزل"، من محاولات إظهارها المرأة الأضعف أوالأقل ثقافة وتأثير في المجتمع، وتكريس ذلك من خلال أجهزة الإعلام و"فيس بوك" وغيره.. ما أقصده هو هذه الفئة من النساء اللائي يجلدن ذواتهن لأنهن لسن عاملات.. ما أقصده هو أن أربت على كتف كل إمرأة عظيمة في المنزل تربي أجيالاً، وأهمس في أذنها أن "اجتهدي في تربيتهم بالوجه الذي يرضي الله"، وأن لا بأس عزيزتي أنتي بكل تأكيد "سترونج إندبندنت وومن".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.