آخر مرة كنتَ فيها أباً!

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/30 الساعة 07:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/01 الساعة 07:57 بتوقيت غرينتش
happy family father and child daughter reading a book with a flashlight in a tent at home

في إحدى ليالي الخريف رافقتُ صغيرتي في جولة سريعة على شاطئ البحر أثناء إجازتنا، كانت تبكي بعد أن تركتها شقيقتها لتستمتع بركوب الدّراجة، أمسكت يد الصغيرة وبدأنا نتمشّى بمحاذاة البحر، أقنعتها أن تُغني، حملتها على كتفي لتنشغل عن غضبها، توقفت فجأة وقالت: "أنا عايزة بابا"، فاجأتني الكلمات، رغم أنها رددتها مراراً من قبل، ولكنها هذه المرة مختلفة، شعرت بوخز في قلبي، لم يُسعفني عقلي وقتها بالرد ووجدتني أحتضنها، زادت في وجعها وقالت: "لنذهب إليه نحن الآن إذا كان هو لا يستطيع العودة"، يا الله ماذا سأفعل الآن؟!

رحل أبوها منذ ما يقارب العامين وهي لا تنساه يوماً، قاومت صمتي وسألتها: وماذا تفتقدين في غياب والدك؟ لم تفكر؛ بل بدأت في الحكي، أريده أن يحملني على كتفه، أريد أن أرسمه، أريد أن أرتدي نظارته، أريد أن أحضنه وأنام بجواره ويوصلني صباحاً إلى مدرستي!

استمعت وأنا أكاد لا أصدق ما أسمع، من أين جاءت هذه الصغيرة بكل هذه المشاعر لأبيها وهي التي لم تعاصره إلا أياماً معدودات بالنسبة لعمرها؟! فقد رحلنا عن مصر وهي ابنة الثمانية أشهر ولم تقابله سوى مرات قليلة خلال أعوامها الثلاثة السابقة لرحيله، لم تمتطِه حصاناً ولم تشاركه حكايات قبل النوم، لم تشاهد معه فيلم رسومها المتحركة المفضّل، لم تخبره بأسماء زملائها في الفصل، ولكنها تتمنى كل ذلك وتتذكر أنه كان جميلاً وطيباً وجسده ممتلئاً.

تحب كل الذكريات التي نحكيها عنه وتصر على أن ترتدي تلك الملابس التي أحضرها في زيارته الأخيرة، ترفض التنازل عما صار صغيراً منها؛ لأنها من "بابا" وترتدي ما يناسب قياسها مرات عديدة لتستمتع بها لآخر لحظة، وكأنها اختزنت كل ذاكرة الطفولة التي لم تعِشها معه!

عندما أنهت كلامها احتضنتها، أخبرتها أنه يسمعنا الآن، رفعت صوتي ورددت اسمه عالياً، أخبرته أن ابنته الصغرى تفتقده، وأن لديها ما تقوله، وكأنها قرأت عجزي، لمعت عيناها وهتفت: "ما رأيك أن أكتب له رسالة، سأخبره أنني أفتقده، سأرسم قلباً ووردة وأضع الورقة في زجاجة وأرميها في هذا البحر وسيرسلها إلى أبي سريعاً؛ لأن أبي ينتظرها!"، باغتتني فكرتها، من أين جاءت طفلة الأربعة أعوام بهذا الحل.. وافقتها على فكرتها وعقدنا أصابعنا معاً لننفّذ اتفاقنا ومضينا.

دعوني أخبركم سراً، في صباحات عديدة أود لو أجد من أخبره أنني أريد أبي أيضاً، ذلك الرجل الذي رحل قبل ثلاثة عقود من دون أن أشبع من حنانه ورفقته، بل ربما بالكاد أتذكر ملامحه، غلبه المرض فتركنا صغاراً، ورغم محاولات أمي أن تمنحنا كل شيء لم تعوضنا غيابه، لم أدخر أحضاناً تناسب لحظة رحيله التي باغتتني في عمر ابنتي الصغرى تماماً، لم أسأل عنه كثيراً كما تفعل هي، ولكنني أبحث عنه في كل تلك الوجوه التي تحمل حناناً أبوياً خالصاً.

فلماذا أبحث عن أبي؟ ولماذا تتمنى صغيرتي الأمر ذاته؟ لم تحلم أن يبني لها بيتاً واسعاً أو يمتلك سيارة فارهة أو يرسلها إلى مدرسة باهظة الثمن؛ بل تمنت قُبلة وضمّة ووقتاً للعب، هل هذه الأشياء صعبة؟! وإذا لم تكن كذلك فهل يجيدها كل الآباء؟

في جلسات السيدات يقتحم الرجال عالمنا عادة، وتتشارك أغلبهن شكوى مكررة وهي غياب أزواجهن عن مسؤولياتهم الأبوية، كأن هناك اتفاقاً غير معلن أن يقوم هو بدور المصرف وتقوم الزوجة بالدورين معاً الأم والأب.

تحكي إحداهن عن روتين يوم الإجازة الذي بات عبئاً بعد أن كان حلماً، فزوجها لا يحب الخروج من المنزل يوم إجازته ولو فعلها يعود غاضباً ويحيل اليوم جحيماً.

تقول إنها تقوم بكل مسؤوليات طفليها يومياً، توصلهما إلى المدرسة وتعيدهما منها، ثم تعتني بطعامهما وملابسهما وتصطحبهما إلى التمارين الرياضية، وبعد العودة ليلاً تبدأ فقرة المذاكرة والتجهيز للنوم، تفعل ذلك كل يوم، وقُبيل نهاية الأسبوع تنتظر تلك اللحظة التي يخبرها فيها زوجها أن لديه خطة للإجازة فلا يفعلها.

تكمل حديثها: "من كثرة خيبات الأمل التي عشتها كل أسبوع صرت لا أنتظر شيئاً، أراقب ما يفعله مع الصغار في صمت؛ فهو لا يريد أن يذهب معهم إلى النادي أو الملاهي وحتى في المنزل يبقى صامتاً يقلب في هاتفه أو يشاهد التلفزيون وينزعج من لعبهم العادي، يبقى غاضباً وكأنه يمقت إجازته، يظل هكذا حتى يرنّ هاتفه فيطلب أحد أصدقائه أن يرافقه للمقهى، فيفعلها ولا يعود ونحن مستيقظون".

أزعجت الحكاية صديقتنا الأكثر طيبة وجمالاً ومحبة؛ قالت إن هذا الرجل لا يستحق الأبوّة، بدأت تحكي عن أبيها قالت إنها تفتقده كثيراً، ذلك الرجل الذي رحل قبل عامين فقط وكان لا يدخر وقتاً لرعايتها وأخيها حتى آخر يوم في عمره كان ملاذها وجدار روحها، ودت وهي فتاة أن تتزوج رجلاً في مثل حنانه ورعايته لأبنائه.

قالت إن زوجها يشبه أباها إلى حد كبير، ولكنه يفتقد مزاجه الرائق في الحياة، يهتم بطفليهما ويحاول أن يجد وقتاً للأسرة وسط هذا العالم المجنون، ولكنه يفعلها بشكل مختلف، وكأنها عمل يؤديه وليس جزءاً من متعته.

تنهدت وأقسمت أن هدهدة أبيها قبل النوم ملاذها الجميل حتى اليوم، وأنها لو شعرت بأي ضيق تغمض عينيها وتستحضر ملامح أبيها.

أرجعت صديقتنا كل ما تمتنّ له في حياتها إلى أبيها، ذلك الشعور بالأمان والسند الذي جعلها دوماً تسير من دون خوف، فقط اطمئنان بأن هناك مَن يقف بجوارها.

تبادلنا النظرات بعد أن انتهت، ونزلت دموعها وهي تمرر هاتفها بيننا لنشاهد صورها مع أبيها، هذه صورة وهو يسرح شعرها، وتلك وهو يحتضن ابنها ويقبل يديها في آن واحد، وأخرى وهو يرفعها على كتفه شابة يافعة… "يا لجَمال أبي.. كم أفتقده!" أنهت حكايتها وابتسمت بامتنان وقبلت الصورة التي تركتها خلفية لهاتفها.

أنهينا الجلسة، ولكن ما قيل خلالها لم يكن نهاية الحديث بل بدايته، صارت تلك الحكاية حاضرة معنا في جلسات عديدة تالية.

على مقهى جميل في أحد الصباحات الرائقة جلست أشرب قهوتي، دخل صديق قديم وبدا حزيناً، سألته لماذا يبدو كذلك؟!

قال إنه يفتقد كونه أباً حقيقياً، لانشغاله في العمل مؤخراً وسفره يومين من دون أبنائه، وأنه يحاول البحث عن حلول ليقضي معهم وقتاً أطول.

أبدى ندمه لكونه أصبح يتأخر في عمله يومياً، وعندما يعود يخلد الصغار إلى النوم بعد فقرة قصيرة من الدغدغة واللعب. قال إنه يحرص على توصيلهم إلى مدرستهم كل صباح؛ ليجد فرصة لمعرفة أخبار الدراسة والحياة التي تفوته في ساعات عمله الطويلة، ولكنها دقائق معدودة لا يشبع منهم خلالها.

سألته عن إجازته الأسبوعية كيف يقضيها، فقال إنها لا توازي أحلامه، فلديهما مواعيد لتمارين رياضية صباحاً، ويحرص على مرافقتهم للسينما أو مكان مفتوح للعب حتى المساء، ثم يعلنون التسليم من التعب ويترنحون نياماً، ويكون هو قد تعب هو الآخر فيبدأ التجهيز للعمل والمدرسة مجدداً!

ابتسمت فتساءل عن السبب، أخبرته أنه لا يجب أن يقلق مجدداً بشأن الوقت الذي يقضيه مع أبنائه، فالعبرة بما يفعله خلال تلك الساعات لا بطولها، لذا هو في أمان، وربما يفوق اهتمامه ما يمنحه ملايين الآباء لأبنائهم وكفى أنه يستمتع معهم ويراهم يكبرون يوماً بعد يوم.

كثيراً ما أشعر بقلّة حيلتي أمام ابنتي الصغرى عندما تسأل عن أبيها، ولكن تواسيني تلك اللحظات التي أراها فيها سعيدة وسوية مقارنة بهؤلاء الأطفال الذين يفتقدون حنان أبيهم، وهو على قيد الحياة، فكم هي المسافة شاسعة بين صديقنا الذي يتحين الفرص ليقضي وقتاً أطول مع أبنائه وبين ذلك الذي يستبدلهم بأي خيار آخر، شاسعة كتلك التي تفصل الموت عن الحياة.

فربما لا نملك حيلة في رحيل الأب عن دنيانا فهي إرادة الله، ولكن افتقاد الأب الحي أكثر وجعاً لأطفاله، فهم يشاهدونه يمارس كل نشاطاته اليومية عدا ذلك الدور الذي ينتظرونه، أن يكون أباً حقيقياً يستمتعون بوجوده معهم، ويتمنى لو تطول ليشبع من صحبتهم، يضعهم في قمة أولوياته لا في نهايتها، يعتبرهم دافعاً لاستمرار حياته لا معطلين لها، يراهم جزءاً مهماً في حياته لا عبئاً يجب التخلص منه، فمتى آخر مرة كنت فيها أباً؟!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
دعاء الشامي
صحفية مصرية
تحميل المزيد