ما زلت أذكر تلك الصورة التي علقها أبي ذات يوم على حائط غرفة الضيوف، قصر صغير وسط غابة خضراء، وأعشاش الطيور على أشجارها.. صورة بسيطة لكنها كانت لي ذاكرة، كانت لي حياة.
لطالما اعتبرت الصورة تعبيراً مصغراً عن حياتي آنذاك، بيتنا الصغير الذي كان يحمينا وقد جعلته أمي قصراً يتسع لكل مشاعر الحب والأمان والاحتواء، وحديقتنا البسيطة التي حوَّلها أبي إلى جنان تأبى العين أن تغمض جفنَيها من خضرة المكان… وعصفوري الصغير ذو التغريدة العذبة يعزف ألحان الحياة في بيت كله حياة.
كنت أستيقظ صباحاً على قُبلة أمي على وجنتي، فتنصرف لتحضر لنا طعام الفطور، بينما يجلس أبي في الحديقة؛ ليتصفح الجرائد التي خلت آنذاك من أخبار الغارات والأزمات، ثم تجمعنا رائحة طعام أمي الشهيّ.
أخرج بعدها مع أصدقائي نلعب ونلهو طوال اليوم، لطالما كانت أمي تضجر من قضائي وقتاً طويلاً في اللهو، من رجوعي للبيت بعد مغيب الشمس، لكنني لم أكُن آبَه فقد كنت وأصدقائي نستغل كل لحظة وكل برهة في اللعب وكأننا علمنا أننا سنشيخ ونحن صغار، وكأننا كنا نعرف أننا سنفترق ذات يوم، أو أننا سنغادر مرحلة الطفولة بسرعة ونصل درجة الرجولة قبل الأوان.
أعود إلى البيت في المساء، متلهفاً لحضن أبي وأمي ودفء بيتنا الصغير، وللصورة المعلقة على الحائط، وسرعان ما تغفو عيني من التعب وأغطُّ في نوم عميق وهادئ؛ لتشرق شمس يوم جديد، لكنَّه هذه المرة لم يكُن كباقي الأيام التي عهدتها.
اسيقظت على صراخ جيراني، وصوت رصاص، وعلى هشيم يتناثر، ودخان يتصاعد.
تحوَّلت فرحة أمي وأبي إلى هلع وخوف، وتوقف عصفوري عن تغريده الشديّ، وضاعت اللوحة المعلَّقة وضاعت معها ذاكرتي.
علمت بعدها أن حياة الدفء وزمن الأمن قد ولّى، أن وقت اللعب قد انتهى منذ وفاة صديقي في الغارة، ومنذ مغادرة الآخر إلى وجهة مجهولة، منذ كبرنا قبل الأوان وعلمنا أن وقت اللعب قد انتهى.
هي قصة خيال أقل مرارةً من واقع أطفال عاشوا مرارة الحروب، وتخلّوا عن حقهم في اللّعب والحياة، وآخرين لم يظفروا ولو بتلك الأيام القليلة من السِّلم والأمان وكان حظّهم أن وُلدوا وسط أصوات القنابل والمدافع، وبات منظر الدّبّابات منظراً مألوفاً لديهم.
كبروا وكبرت معهم أحلامهم البسيطة التي تفوق حلم طفل في السابعة أو الثامنة، قلوب صغيرة ولكنها لا تكفّ عن الحلم، حلم ينبع من واقعهم الذي تصدّوا له بكل قوة، لا يتمنّون الكثير، يتمنون فقط حياة بلا هدير دبابات ولا صوت طائرات، وآخرون يحلمون بلقاء أصدقائهم وبعض أفراد عائلاتهم الذين فرّقتهم الحرب، ولم يعد يجمعهم سوى صور غطّاها الغبار، تُحيي أمجاد أيام الأمن والأمان.
وفئة أخرى لا تحلم بأكثر من حقها في حياة سعيدة وآمنة كباقي أطفال العالم، بحياة صاخبة تارةً وهادئة تارةً أخرى، حياة بعفويتها الطفولية، هي أحلام لا يتسنى لهم تحقيقها سوى في غمضة عين، في سبات نوم ما داموا محاطين بأمم هي نفسها تغرق في نوم عميق، أحلام يعيش عليها البعض.
وآخرون حُرموا حتى من أن يحلموا، سُلِبوا روحهم بدون ذنب، الطفل إيلان الذي هزت صورته العالم كان حلمه أن ينجو وعائلته، أن يقطع البحر علّه يجد وراءه برّ أمان، هرب من الموت جوعاً أو قصفاً أو قتلاً إلى الموت غرقاً، ومشهد الطفل محمد الدرّة وهو يحتضن والده قبل أن يستشهد راقداً على ساق أبيه في مشهد ما زال عالقاً بمخيلة كل منا، مشهد هزّ ضمائر العالم، وأبكى أشد قلوب البشرية قسوة.
كلها مشاهد قد تسقط جبلاً من شدة قسوتها عند مشاهدتها فما بالك بمَن عاشها.
وأمام شريط الدّمار الذي يتردد أمام أعين الباقين منهم في كل دقيقة، وصور القتلى والجثث المشوهة، صفارات الإنذار وصوت الدبابات، والمنازل المدمَّرة أمام كل هذا لك أن تتخيل حجم المشاكل النفسية التي تواجه البالغين فما بالك بالأطفال، من اكتئاب واضطراب في النوم وفوبيا بجميع أنواعها واضطرابات نفسية، لا تتوقف بتوقّف صوت الطائرات ولا دويّ المدافع بل تترسخ فيهم أعواماً بعد ذلك.
مهما تحدثنا عن المعاناة ومهما حلّلنا وتخيلنا حجمها لن نصف بدقة ما يعيشونه بالفعل، فالواقع المعاش أشد تعقيداً وقسوة من كل النظريات والتحليلات.
فما ذنب أطفال حُرموا من مقاعد الدراسة في زمن العلم والتطور، حُرِموا من عطف الأم أو الأب أو هما معاً، حُرِموا من اللهو واللعب وباتت ألعابهم دبابات صغيرة وقنابل، حُرموا من البسمة، من الطفولة والبراءة.. ما ذنبهم في حرب لم تصنعها أيديهم ولا كان لهم يد فيها، جعلتهم بلا أوطان، بلا عنوان، بلا مأوى.
جعلتهم الحروب يتخلون عن طفولتهم، منهم مَن أصبحت تعيش دور الأمومة مبكراً تعتني بإخوتها وترعاهم وهي بدورها تحتاج لصدر حنون يضمها، ينسيها ألمها وفقد والديها، وذاك طفل لم يكمل عامه الثامن بعد لم تمنعه الحروق التي على وجهه من آثار القصف من الابتسامة، لم يمنعهم ذلك للحنين بين الفينة والأخرى إلى أجواء المرح، إلى التذكر أنهم أطفال فيصنعون ألعابهم بأيديهم، ولسخرية القدر يجعلون من فوارغ المقذوفات التي استخدمت في قصفهم ألعاباً، يجعلون من الموت لعبة.
فعذراً لكل الأطفال الذين عجزنا عن فعل شيء لأجلهم سوى الكلام، عذراً فأنتم الأحياء الصامدون وسط الحروب ونحن الأموات على قيد الحياة، عذراً لانتظاركم طويلاً فأمّتنا ما زالت نائمة تنتظر أن يوقظها زعيم شجاع أو عزيمة تبثُّ فيهم روح الاتحاد والاتفاق، عذراً لأننا نعلم أن الاعتذار ما عاد يُجدي نفعاً ولن يغير شيئاً.
عذراً لأننا لا نملك ما نقدمه سوى قصيدة "اعتذار" من بحر محمود درويش:
"حلمتُ بعرس الطفولة.. بعينين واسعتين حلمت
حلمتُ بذات الجديلة.. حلمتْ بزيتونةٍ لا تُباع
ببعض قروشٍ قليلهْ.. حلمتُ بأسوار تاريخِكِ المستحيلة
حلمتُ برائحة اللوز تشعل حزن الليالي الطويل..
بأهلي حلمت.. بساعد أُختي
سيلتفُّ حولي وِشاحَ بطولهْ.. حلمت بليلة صيف
بسلّة تينِ.. حلمتُ كثيراً
كثيراً حلمتُ.. إذن سامحيني!"
فسامحينا يا أحلام الطفولة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.