هربتُ من مصر إلى بلد الأمراض والمجاعات.. هذه حكايتي بمدينة مالاوي الإفريقية

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/26 الساعة 11:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/26 الساعة 14:18 بتوقيت غرينتش
Group of happy African children - Ethiopia, East Africa

منذ البارحة أحدّق في سقف الغرفة، أحاول أن أمسك طرف الخيط في رأسي، وأحكي عن التجربة.

قبل 3 أسابيع سافرت إلى مالاوي، هذا البلد الإفريقي، متوقعة أن تكون تجربة سفر كغيرها التي بدأتها قبل 3 سنوات، وخروجي من مصر.

بدأت الرحلة قبل أيام من سفري، وحصولي على قائمة لقاحات وقائية للذهاب لبلد إفريقي يعيش أمراضاً ومجاعات وأشياء أخرى نسمع عنها في نشرات الأخبار.

قبل أربع سنوات، قررت أن أعتبر أن هذه الحياة قاسية جداً، ليس بسبب الثورة في مصر وفشلها في إحداث أي تغيير، لكن لكثافة التجارب والحكايات التي مررتُ بها، خاصة في الأربع سنوات الأخيرة.

القاعدة الأولى:

"مستحيل أن تتشابه التجارب فلا تدّعي معرفة بأصحابها"، كنت محمّلة بحكايات صعبة حتى أصبحت أسيرة لها، سافرتُ ودخلت في حكايات أكثر لأصدقاء وغرباء عشت معهم، وفي كل مرة كان مغناطيس معاناتهم هو أكثر ما يشدني في الرواية، أكثر من أي شيء آخر.

عشتُ مع سيدة سورية نجت بأعجوبة من الموت غرقاً في قارب متهالك، ثم قررتْ أن تعاود التجربة مرة أخرى مع طفلَيها على أمل أن تعيش في جنة أوروبا! أما الصديق العراقي الذي يحمل من التفاؤل وحبه للزهور ما يكفي بأن يوزع على الكرة الأرضية، في النهاية أكتشف أن له مأساة تكفي بأن يدخل في نوبة اكتئاب حاد بعد مقتل أخيه الأصغر على يد تنظيم إرهابي.

في مالاوي قسوة الحياة ظاهرة بوضوح، ليس بسبب الثورات ولا الظلم ولا الغربة، ولكن لأنها دولة خارج نطاق الزمن أصلاً، الحضارة لم تصل هنا.

في أول أيام الدراسة 16 أبريل/نيسان، جاءتني مونيكا، فتاة في الحادية عشرة، وهي تلبس زياً مدرسياً يحمل ثقوباً باتساع عينيها الجميلتين؛ لتحكي عن يومها، وتمارس دور المعلمة وهي تدرسني كلمات جديدة في لغتها المالاوية.

قابلتُ مونيكا في يوم تصوير لأطفال القرية سألتني:

* من أين أنتِ؟

– من مصر، هل سمعتِ عنها؟

* لا، احكي لي أي شئ عنها.

أحاول ألا أنقل عُقدي الثلاثينية وتجاربي عن قسوة الحياة لطفلة صغيرة بالكاد تعرفت عليها، أبتعد عن أكلاشيهات "بلد حضارة سبعتلاف سنة والأهرامات وكل السماجات التي أكرهها".

أحكي لها عن كلب الحارة الذي جرى ورائي وأنا في مثل عمرها، ثم اكتشافي بأني أصلح أن أكون عدّاءة ماهرة، وإخوتي الذين اشتقتُ إليهم كثيراً ورسوماتنا العبيطة على جدار غرفتنا لقاع البحار وأشكال أسماكه المختلفة التي لم يكتشفها العلماء بعد!

الطفولة دائماً مبتدأ الحكايات.

أخبرتني مونيكا بأن البحيرة التي تسكن بالقرب منها بها أسماك بأشكال مختلفة، وأن هذا سبب قوي لأن نكون أصدقاء.. "أسماكنا الغربية".

بعد أيام استعرضتْ مهارتها في الرسم ورسمتني بفستان قصير وشعر طويل، ثم كتبت لي بلغة مالاوية "أحبك سالا".

على مدار الأيام التالية تعرفت أكثر على قصتها، فتاة تعيش في منزل فقير جداً وحياة بلا كهرباء ولا مياه نظيفة، وزوجة أب تجبرها على المبيت في الشارع حتى تحضر نقوداً.. حياة عادية لطفلة تعيش في بلد يصنف كثالث أفقر دولة في إفريقيا.

ما زلت أؤمن أن الحياة قاسية وليست عادلة، قبل أشهر سألتني سحر، صديقتي التونسية التي نعيش معاً: لماذا تستخدمين كلمة "مش لطيفة" دائماً في وصف الأمور؟ هل لها دلالات معينة عندكم في مصر؟

أقول لها: لو اندلعت حرب عالمية أمامي الآن لوصفتها بالـ"مش لطيفة"، أعني ما أقوله تماماً، خاصة بعد أن صرت أكثر صمتاً، وعاجزة عن وصف الأشياء تحديداً.

اليوم أضفت كلمات جديدة لقاموسي، وهي أن الحياة واسعة وضيقة، كما تقول رضوى عاشور:

"لما نكون فيها نزرع ونقلع ونربّي ونكبّر ونشيل ونحط ونروح ونرجع ونطلع وننزل ونحب ونكره ونحمل الهم وننتظر الفرج، تكون واسعة، ولأن فيها عن يميننا ناس وشمالنا ناس، وفوقنا وتحتنا ناس، الكل مهموم أو فرحان والكل فيها .. تبقى واسعة.

ولو وقفنا بعيد، نقول ضيقة مثل خرم الأبرة، ونقول إيه يعني نعيش عشان نموت، ونبني والبنا نهايته هدد، ونعمر والريح تاخد، ونكبّر ونفتح كفوفنا نلاقيها فاضية.

أنا باقول لما نعيشها نشوفها واسعة حتى لو ضاقت، ولما نفكر فيها من بعيد نشوفها ضيقة وخانقة وبلا معنى ولا لزوم.. واسعة وضيقة يا بنت أخويا".

وضعتُ لكم بالأسفل صورة مونيكا ورسمتها الجميلة 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سارة نصر
صحفية مصرية
تحميل المزيد