أحتفل اليوم بعيد ميلاده السادس، أحتفل بحبه، أحتفل بضحكاته، أحتفل بحزنه، أحتفل ببكائه، وأحتفل بإنجازاته. سند كان المولود المثالي، ينام لأربع ساعات متواصلة، يصحو ليشرب الحليب ويعود لنومه بسلام، حتى عندما يستفيق يلعب لوحده في سريره لساعات، مرت الأيام وتجاوز سند شهوره الستة الأولى من أروع ما يمكن، وهنا بدأت ألاحظ أن سند مميز، سند كان يكره صوت الألعاب الإلكترونية، ويبكي بشدة عند سماع أصوات عالية، وكان يرفض أن يأكل وجبة حبوب القمح المطحون (سيريلاك) وكانت هذه أمور طبيعية؛ لكن ما كان مميزاً في سند هو حبه للاستكشاف من خلال النظر فقط، فكان يضع لعبته أمامه وينظر إليها من جهات مختلفة دون أن يلمسها. لم أشكّ أنه يعاني من اضطراب التكامل الحسي.
لم يقُم ولو لمرة بوضع أي شيء في فمه حتى المصاصة (اللهاية) رفضها بشدة، سند لم يحبُ بالرغم من أنه كان يتقن الحبو، إلا أنه كان يجلس في منتصف الطريق، ويفرك يديه معاً في محاولة لتنظيفهما، فكان الحبو بالنسبة لسند بمثابة معاناة فاستغنى عنه، وأتقن المشي في عمر التسعة أشهر.
من الأشياء التي جعلتني أتعجب تميّزه؛ هو رفضه لأن يمسك أي نوع من أنواع الطعام، كما يفعل باقي الأطفال فعند وضع الطعام المقطع (الخيار، الخبز، قطع الجبنة) بقربه، كان يحكم إغلاق فمه ويدير وجهه ويستمر بالصراخ إلى أن أرفع الطبق من أمامه، فكانت خياراتي مع سند محدودة جداً؛ لأنه يفضل الطعام المهروس ذا النكهات الخفيفة، ويتناول الطعام فقط من ملعقة بلاستيكية زرقاء، أي محاولة من طرفي لتغيير الملعقة كانت تسبب لهُ الغضب، الذي يعبّر عنه بإلقاء الطعام؛ لذلك كنت أكره وقت الطعام!! فقد كنت أصاب بالإحباط في كل مرة أحاول فيها إطعامه صنفاً جديداً، وأدخل في نوبة بكاء في كثيرٍ من الأحيان.
تعدّى سند السنة الأولى من عمره من دون أن يتذوق الخبز، ودون أن يأكل طعاماً صلباً، وكنت أسال أطباء الأطفال فيجيبون بأنهم رأوا سند، وأنه طفل طبيعي، وأن قلقي ليس في محله، وبالنهاية سند سيكبر وسيأكل مثل أقرانه، وكان جميع من حولي يلومونني على قلقي الزائد، أو يتكرمون عليّ بنصائح ليست في محلها.. فهم لا يعلمون كم التجارب التي كنت أحاول فيها خداع ابني ليفتح فمه لتركيبة طعام جديدة أو نوع جديد، وكانت جميع محاولاتي تبوء بالفشل والإحباط وجلد الذات، وكمية مهولة من المشاعر السلبية.
بعيداً عن الطعام، تمتع سند بشخصية محببة مرحة، الابتسامة لا تفارق وجهه. وهو يلعب لوحده لساعات، يحبه الجميع حتى إن جدته لأبيه كانت تلقبه بسعيد؛ لأنه دائم الابتسامة ويدخل السعادة في النفوس.
مع ذلك فقد كان يحب اللهو الذي يكون فيه قوة بدنية، يحب أن أعانقه وأعصره بين ذراعي، يحب أن يركض ويرمي نفسه بقوه في حضني، وكان يستمتع عندما يقوم خاله برميه بقوة على السرير.
كانت تمر الأيام وسند يكبر وخياراته في الطعام تتقلص، وأنا أبحث جاهدة على الإنترنت علّي أجد حلاً لمشكلتي هناك، وكنت أمضي ساعات بقراءة المنتديات، وأقرأ تحديات وتجارب الأمهات الأخريات المتعلقة بالطعام علّي أجد الحل، إلى أن استوقفتني كلمة (Sensory Processing Disorder) في إحدى المشاكل المطروحة من إحدى الأمهات، وهنا بدأت أقرأ أكثر، وبدأت أجد الإجابات بل جميع الإجابات لتصرفات سند.
كان سند يبكي عند رؤية طعام صلب؛ لأن أعصابه كانت تقوم بتكبير الإشارات، وعقله يترجمها على أنها خطر، سند يعاني من اضطراب التكامل الحسي!
وهنا بدأنا معركة جديدة في رحلتنا، بدأنا بالبحث عن أخصائي قادر على مساعدتنا، ولقلة المحتوى العربي في هذا الموضوع لم أعرف ممن سأطلب المساعدة، بحثت وقررت التوجه لمراكز التوحُّد؛ سند لم يكن طفلاً متوحداً، لكن اضطراب التكامل الحسي موجود عند أطفال التوحُّد، إذاً سأجد ضالتي هناك.
ذهبت والمركز الوحيد الذي كان على اطلاع بهذا المصطلح رفض حالة ابني كونه ليس متوحداً، فعدت إلى نقطة البداية وبدأت بالبحث إلى أن وجدنا مركزَ نُطق لديه بعض الخبرة في هذا المجال، قيّموا وضع سند وكان التقييم هو فرط تحسس بالفم (التذوق) واللمس والسمع وضعف بحاسة الإدراك الفراغي.
ووضعنا خطة لنبدأ بالعلاج، قضينا ثلاثة أشهر في أول مركز، وكان التحسن الوحيد هو تحسن نطق سند فأصبحت مخارج الحروف أوضح، وكلامه مفهوماً، ولكن لم يتحسن في تناول الطعام، ولم يتقبل أصنافاً جديدة.
ومرة من المرات وخلال وجودي في المركز التقيت بصديقة قديمة (وأدين لها بعمري لأنها السبب في تخطي سند أكبر عقبات حياته)، وعرفت أنها خبيرة بلع، وقد تستطيع مساعدتي مع سند، أخذت سند وذهبنا، واستطاعت أن تقنعه بأن يمضغ "بسكويت" في أول حصة لها معه، بكيت وها أنا أبكي الآن، وأبكي في كل مرة أستذكر فيها هذا الموقف، وأتذكر كيف كانت ردة فعل سند، كيف حاول الاستفراغ ومضغها بصعوبة بالغة جداً، لكنه بلعها بالنهاية وبدأنا مشوار التحديات، كانت الجلسات قاسية جداً من الناحية النفسية عليَّ وعلى سند.
كنت أرافق سند في كل جلساته، أبكي معه وأفرح بإنجازاته، أصفق وأقفز، وأحياناً يؤلمني جسدي حين يرمي بجسده الصغير على الأرض اعتراضاً، كنا نعود من الجلسة مرهقين، ولكن يجب علينا تعزيز كل ما تم عمله في البيت لحين موعد الجلسة التالية، استمررنا لفترة إلى أن بدأ سند بالتجاوب وتقبل فكرة تجربة نوع طعام جديد فتوقفنا عن الجلسات وأكملنا المشوار في البيت.
ما زلنا كعائلة نحتفل ونهلل عندما يضيف سند صنفاً غذائياً جديداً لقائمته، ونكره شعور الخيبة عندما يرفض صنفاً آخر، سند حتى الآن لا يأكل الخبز، ولا يفضّل تناول الطعام خارج المنزل، لكنه خاض تحديات وتجارب تفوق عمره، سند محاربي الصغير استطاع أن يتغلب على تحدياته، واستطاع أن يروّض عقله الصغير ويحقق إنجازات كبيرة، واستطاع أن يتغلب على الفشل بالتدريب والإصرار.
من خلال مشاركة تجربتي مع سند فأنا أطمح إلى مساعدة الأمهات، وتشجيعهن على الجري وراء مشاعرهن بأن هنالك ما هو غير صحيح، حتى وإن اتفق مَن حولهُن على أنها مرحلة عمرية ستمُر، ففي كل خطوة تسعين بها لخلق فرص أفضل لأطفالك، واكتشاف تحدياتهم ومساعدتهم لحلها أنتِ تخلقين لهم مستقبلاً أفضل، ودعماً أكبر؛ ليسيروا في رحلتهم واثقين.
أنا وابني سند
من موقعmumzworld
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.