في عام 1967 كتب جون لينون، مغني وعازف فرقة "البيتلز" الشهيرة، أغنية "كل ما تحتاجه هو الحب"، وفي نفس الوقت ضرب زوجتيه، وتخلّى عن أحد أبنائه، وأهان مديره اليهودي وعايره بديانته، وقال عنه إنه شاذ جنسياً.
وبعد مرور خمسة وثلاثين عاماً، كتب ترينت ريزنور وهو أحد أعضاء فرقة "ناين إينش نايلز" أغنية "الحب ليس كافياً"، على الرغم من أنه أدى عروضاً مليئة بالعنف، لكنه استطاع التعافي من إدمان الكحول والمخدرات، ثم تزوج وأنجب طفلين واعتزل الغناء بشكل كامل حتى يتمكن من البقاء في المنزل لرعاية أطفاله ويصبح أباً وزوجاً ناجحاً.
كان لدى هذين الرجلين تطبيق مختلف للحب، واحد منهما لم يفعل بما يقوله ويكتبه، والآخر كان مؤمناً بأن الحب هو الحل المثالي لجميع مشاكله، ربما كان أحدهما أحمق نرجسياً، وتفانى الآخر من أجل الحب.
في ثقافتنا الإنسانية نرى الحب حلاً سحرياً لجميع مشاكل الحياة، أفلامنا وقصصنا وتاريخنا وأغانينا كلها تحتفي بالغرام وكأنه المنقذ من آلامنا ومعاناتنا، نحن نبالغ في تقديره، ثم ندفع الثمن عندما تفشل قصصنا.
في فيلم "حبيبي دائماً" تأثرنا جميعاً بالحب بين شخصيتي إبراهيم وفريدة حين شارك نور الشريف زوجته بوسي في بطولة واحد من أكثر الأفلام رومانسية في تاريخ السينما العربية، لكن في الحقيقة وبعيداً عن الكاميرات، خان نور الشريف، خان حبيبته بوسي في أواخر أيامه، صدمنا محطّماً الصورة المثالية التي قدمها لنا في الفيلم.
مثال آخر عن الحب الأسطوري الذي انقلب إلى إهانة وتكشفت فضائحه في ساحات المحاكم وصفحات الجرائد، قصة أشهر نجمين في هوليوود "براد بيت وأنجلينا جولي"، فبعد الحب أساء كل منهما إلى الآخر، وصارت قصتهما مثار سخرية وتعجب.
عندما نؤمن بأن "كل ما نحتاجه هو الحب"، مثل لينون، فمن المرجّح أننا نتجاهل القيم الأساسية مثل الاحترام والتواضع والالتزام تجاه الأشخاص الذين نهتم بهم، نعتقد أن الحب قد يحل كل شيء دون أن نهتم بالقيم الأخرى الملازمة لهذا الحب.
ولكن إذا كنا، مثل ريزنور، نعتقد أن "الحب لا يكفي"، نكون قد فهمنا أن العلاقات الصحية تتطلب أكثر من العاطفة الخالصة أو المشاعر النبيلة، فنجاحها يتوقف على قيم أكثر عمقاً وأهمية من الحب المجرد.
مشكلتنا مع الحب أننا نراه منفرداً، وبسبب ذلك تتشكل في تصوراتنا توقعات غير منطقية، هذه التوقعات والتطلعات التي نعيش بحثاً عنها قد لا تحدث فيموت الحب، فليس بالضرورة أن يستمر الحب على المدى الطويل مع شخص متوافق معك شعورياً وجنسياً، لكنه يهينك ولا يضع نفسه مكانك في المواقف المشتركة.
قد يكون مؤلماً حينما تدرك بعد فترة أن لدى الشخص الذي أحببته طموحات مختلفة تتناقض مع منطقك وأهداف حياتك، قد يحمل معتقدات فلسفية مختلفة أو وجهات نظر تتصادم مع شعورك بالواقع.
يؤلمنا جداً أن هؤلاء الذين نحبهم يمصون طاقتنا وسعادتنا، يستنزفون قدرتنا على العطاء، وقد يبدو هذا متناقضاً ولكنه صحيح.
ففي مقال سابق تحدثت عن العلاقات السامة التي لا تسبب لنا غير الوجع، نتألم ونصرّ على أنه من الصعب الفكاك من شخص اعتدنا عليه ولا نستطيع تصوّر بديل يحل محله.
لاحظت قاسماً مشتركاً بين معظم العلاقات الكارثية التي أستمع إليها من أصدقائي والمحيطين بي، جميعهم بدأوا علاقاتهم من هذيان ورجفة معتمدين على غريزة وإحساس جسدي وانبهار مؤقت، متناسين أن ومضة الحب الأولى تلك التي يتذكرونها في كل موقف، ما هي إلا تغيّر هرموني في الدماغ يسبب الخدر والشعور بالسعادة المؤقتة، وللأسف فإن هذا التأثير الكيميائي قد لا يستمر كثيراً.
عندما تقرر البدء في رحلة البحث عن شريك، لا تعتمد على قلبك وعينيك فقط، ضع في اعتبارك العقل واعتمد خطة واضحة المعالم، فليس كافياً أن تجد مَن يحلق ويرفرف بقلبك، اختبر قيم شريك حياتك وكيفية تعاطيه مع نفسه ومع المحيطين به ومعك، عليك أن تركز على الأهداف المشتركة بينكما ونظرته للعالم.
لا تعتقد أن الحب ترياق سيحل مشاكلك العاطفية السابقة، ولا تستخدمه وسيلة لنسيان الماضي، فعندما تفيق من غفوتك سينقلب عليك لاحقاً، فمن المستحيل تغيير شخص تحبه ليست بينكما الأهداف ذاتها، ستجد أن مشاكل العلاقات السابقة تكرر نفسها، وقد تتورط أكثر في معارك، وستشعر في وقت ما بأنك معلق من رقبتك وعاجز عن الخلاص، وعندما تعود للوراء وتفكر مليّاً ستكتشف أن علامات فشل هذا الحب كانت واضحة، لكنك تغاضيت على أمل أن تحقق توقعاتك مع شخص لا يؤمن بها من الأساس.
لا تصبر حتى تتحطم العلاقة ويصبح الفراق درامياً وقاسياً والانفصال قبيحاً ومهيناً.
عليك أن تؤمن بالحقيقة الصادمة وتفهمها جيداً، "الحب لا يستحق دائماً التضحية بنفسك"، فواحدة من أهم خصائص هذا الشعور أن تكون قادراً على التفكير خارج نفسك وفهم احتياجاتك الخاصة، حتى تستطيع أن تحب شخصاً آخر.
لكن يظل السؤال: ما هي حدود التضحية في الحب؟ وهل تستحق العناء؟
من الطبيعي في علاقات الحب، أن يضحي الطرفان برغباتهما واحتياجاتهما الخاصة، ويبذلا من وقتهما لبعضهما البعض، هذا أمر صحي يجعل العلاقة مستمرة وناجحة.
لكن عندما يتعلق الأمر بالتنازل عن احترام الذات، وكرامة الإنسان، وجسده، وطموحاته وأهدافه لمجرد أن يكون مع شخص ما، فهذا ليس حباً ويصح أن نسميه "علاقة سامة" مؤذية.
من المفترض أن يكون الحب استكمالاً لهويتنا الفردية وليس سبباً في الأذى، فلا تفرط في مشاعرك ولا تستهلك مخزون عواطفك الذي يحفزك على استمرارك في الحياة، لا تفقدها فتفقد قدرتك على المواصلة، ثِق بنفسك وامنحها قدرها واحترم ذاتك وكرامتك، ولا تأمل في شخص لا يستحق.
الحب من أجمل تجارب الحياة، ضروري، عظيم، مهم، إنه الشعور الذي يمنحك السلام الداخلي والشعور بالأمان مع شخص مكمّل لك "يحترمك".
الحب يستحق أن نبحث عنه، ولكنه مثل أي شيء يحتمل أن يكون ناجحاً أو فاشلاً.. لكنه ليس كافياً وحده.
هذا المقال نشر في موقع اليوم الجديد
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.