علاقات دولية مضطربة.. وعباد الله تتناحر تتذابح وتتقاتل وتنكح وتتناكح.. عالم بأسره يغلي على أكثر من جبهة.. ست قارات تعيش استنفاراً وحصاراً وحَظرَ تِجْوَالٍ من منتصف الليل إلى حين أذان الفجر وبين الليل والفجر أجساد تصلّي على قارعة الطريق صلاة الجوع والفقر واليأس.. وأجساد تصلّي صلاة استِخارةٍ واستسقاءَ سراً.. وأجساد أخرى تمارس الحب جهراً، بعضها في الحلال ينعم، وبعضها عابرو سرير.
وهياكل أُخر تتحرك ملغمة تُهَيِّئُ نفسها لتفجير بعد صلاة الفجر، وما إن تتلقى تعليمات آخر الليل حتى تصيب أجساداً بريئة في مقتل.. معارك مستمرة واشتباكات وتفجيرات وألغام وأجساد وأشلاء وبقايا عظام ورؤوس انفصلت عن جذوعها عُلِّقَتْ فوق أسوار المدينة؛ لتنشف ويشيح دمها وتدخل التاريخ كما دخل سور المدينة من قبلها.. استهتار وعدم استقرار يخيم على الكون.. ويدور هذا الكون عكس الفلك.
برأْيكُم هل هي فوضى الجسد؟ أم فوضى الحواس هي؟ أو يمكن هي فوضى الحياة ما قبل الموت.. المحيط الهادي تزعزع هدوؤه وتقلَّب مزاجه على مرأى ومسمع حكام منطقة آسيا، شمال إفريقيا لم يعد للأفارقة كما صرَّح القائد النوميدي ماسينيسا.. مياه الأطلسي انقلب موجه واجتاح جزءاً من الأرض، بحرنا المتوسط ضاع وسْطُهُ وانحاز قليلاً لليمين عن اليسار فانخرم نظام جسده ومال للاعوجاج وطفح كَيْلُ النٍّظام وكَيْلٍي، ماج الناس بعضهم في بعض من المحيط الهادي إلى المتوسط تقاذفتهم الأمواج، اضطرب المجلس.. طفح كيلي ثانية فوثبت من وسط الجموع والناس، أردت لقاء الْعَدُوِّ عَدُوَّ هذا الكون.. تساءلت بيني وبيني عن بلاد الْعَدُوّ.. فَنُودِيَ لي في النفير وبرز الناس للقتال فَقُتِلَ من العدو قليل وقُتِلَ من أبناء أُمَّتِي خلق كثير، ثم اجتمعوا عليه من جديد في قممهم العربية وقتلوه ثانية.
وعرفت حينها أنَّ الإنسان هو عَدُوّ الإنسان وهو ذئب الذئاب لأخيه الإنسان، فكيف لبلد النهرين بلد العجائب والغرائب والحضارة وسامراء أن يغدو عطشان يشحذ الماء من قاتله..بلاد الرافدين البلد الذي بكى عند تَخَوُّمِهِ الإسكندر وأحسَّ فيه بقرب الْمَنِيَّةِ يغرق في دمائه منذ أكثر من عقد وعند الموصل وتحطيم متحف الموصل بقية الحكاية، والشام.. دمشق بلد الألف نبي يُهَجَّرُ أبناؤها قسراً فيموت بعضها على الحدود برداً ويموت آخرون قهراً قبل الوصول عند المعبر لنصب خيام الذل والهوان وفلسطين القضية.. ضاعت منها القضية وماتت فلسطين والنخوة العربية.
وموطني الأوّل تونس الخضراء انخرم نظام حمية جسده وهزل، لكنه قادر على استعادة وزنه على ما يبدو وللأَوزان مَلَكٌ عليها يُسَجِّلُ الحسنات من السيئات، وابن الوزير لوحده "عايش في خير"، في فوضى المعترك أعلاه فوضى البحار والدُّول والإنسان أُفاجَأُ صدفة بمثل تونسي يقول: "القمح يدور يدور ويرجع لقلب الرَّحَى"، وكل من عليها فان، وأنا امرأة ثغرها يبتسم وتحت الابتسام طبقة شحوبٌ وعتمٌ وليل.. ليلٌ طويلٌ ودبَّابات تقرع في شوارع ذاكرتي وتهتز لقرعها شهوتي وعاطفتي وجيبي.
الإنسان والجسد هما قلب الرَّحى والمرأة والفراشة.. تُرى ما سِرُّ حياة الفراشة؟ كيف تتجانس؟ وما سر تشرنقها؟ وماذا تحس؟ وأين تموت الفراشة؟
لا أحد يتساءل عن مكان موت الفراشة وكيف تصير ألوانها البهية بعد الممات.. تموت الفراشة بعيداً عن الأنظار تختار لها مكاناً صامتاً بعيداً عن فوضى المدينة والإنسان، وتختار فوضى الجسد الحر.. لمَ لا نكرم الفراشة بعد موتها تماماً كما نكرم أجساد أمواتنا ورفات القديسين ونلتمس منها البركة ومن رفاتها علها تخرجنا من صمت القبور والمجازر؟!
الروح والجسد.. جسد يشتهي ضد الروح، وروح تشتهي ضد الجسد، وأنا تائهة في صمت قرى الجبال الشاهقة، ونساء الريف يرعين والأغنام والحرب والحصار، لا أعرف كيف أشد رحالي وأدخل في صلب الموضوع، كل الأفكار تداخلت في ذهني، فتهتُ بين جسد وإنسان وفراشة وامرأة وموت.
وولداي قرة عيني هما حاجتي التي تدفعني إلى أن أسعى لأكون موجودة دائماً وجوداً مدفوعاً بغيب الفسلجة والسيكولوجي، حاجة علنية وغامضة تشد كل امرأة للحياة.. المرأة أنا وأنت.. نحن.. هن… يقال إننا بدء فكرة أن يكون ويبدأ هو، آدم.. هو وأنا انتماء وتبادل لرأي ولهاجس، لجسد وروح فقط من غير تعقيد، نحن "امرأة" يشع جسدها كبلور، وهو رجل مليء بجروح حروب لا تنتهي.. هو يشعر تجاهها بالكثير، وهي تشعر بذات الكثرة ناحيته، "هو" عظيم بها "هي"، ووراء كل عظيم امرأة، وخلف كل عظيمة رجل أعطاها مساحة حرة للتفكير، لم يكبّلها واحترم وعيها وشذوذها ووحمها البيولوجي والإبداعي.. سألني ولدي ذات يوم، قال: ما معنى "وراء كل رجل عظيم امرأة؟"، وكان كثير الأسئلة وكان ذكياً.
فقلت: قالوا هذا إنما ليصنعوا منها شكسبير وسلفادور دالي ودافنشي وأديسون، وليس أدولف هتلر بعينه الواحدة يرتدي خشونة الجنرال ويترك المرأة وأحضان النساء دون دفء وهو صاحب الفرن الجماعي المشهور.. إنَّ المرأة يا ولدي كائن يبحث عن الدفء تماماً كالفراشة، دفء يخرج الأنثى من وكرها، من صمتها، تماماً مثل دعوة لصلاة ترفع يدها له، فيلوح لها هو بيده أن تعالَي.. فتصعد هي الجبال دون تعب ولا ملل، وتمسك من فرط شغفها القمر المجنون، وتقول للقمر انزل عن عرشك لأجلس مكانك، فتنزع عنها الثوب وتعلقه على الغصن، وتنام هي عارية في الكهف، ويشعل هو لها عود ثقاب ليرى وجه أنثاه ليصبح خط لهب يمتد من الأرض للسماء.
إِنّه الهاجس الأول بين جسدين، بين كَائِنٍ وكَائِنْ خُلِقَا من نفس واحدة.. امرأة ورجل تعرَّيا وبزق كلاهما على الأرض أنبتا حولهما فطراً وتفاحاً، تَفَهَّما الوضع أثارته هي وأغوته وقَبِلَ هو شروط اللعبة ونزلا متعانقين تارةً متنافرين تارة أخرى.
الْتَقَيَا دائماً عند نفس الرغبة ولم يتفقا أبداً عند نفس الفكرة وإن اتفقا فربما رغبة الجسد هي التي أحدثت الفارق.. تقاربا وتباعدا.. تنافرا وتحابا، تَبَوَّسَا وتَدَنّسا، اتَّصَلاَ وأنجبا وانفصلا، وعند نقطة الانفصال قاطعني ولدي بشغف طفولي جميل:
ما هذا يا أمي… إِنّه معقد خيط الحياة بين الرجل والمرأة.. متناقض مرتبك غامض وغير مستقيم كما خطوط كراستي.
هي لعبة الحياة -ولدي- لن تستقيم خطوطها إلا إذا اعوجت، ولا يمكن أن نمتلك الثبات ولو للحظات.. نحيا لنعيش بهدوء دون افتراضات وهمية لنتقدم، ونحلم دون أن نرجع للوراء، فلا تفكر في عذاب القبر ولدي وفكّر في عذابات الحب.. بالحب نحيا وبالجسد نعمر لنستقر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.