بات من شبه المؤكد ذهاب تركيا لانتخابات رئاسية وبرلمانية (إضافة لانتخابات "المخاتير") يوم الـ24 من يونيو/حزيران 2018، بناء على دعوة الرئيس التركي وبعد صدور القرار عن البرلمان خلال ساعات أو أيام كما هو منتظر. وعليه، ستكون هذه المحطة الانتخابية هي الأخطر والأكثر حساسية في تاريخ تركيا الحديث وتجربة "العدالة والتنمية" على وجه الخصوص، باعتبارها أول منافسة انتخابية بعد إقرار النظام الرئاسي.
ستبدأ الحملات الانتخابية قريباً، ما يعني أن الفائز هو من سيجمع أكبر عدد من النقاط لحسم المعركة؛ إذ لا ضربة قاضية هنا. بهذا المعنى، فقد وجَّه الرئيس التركي لكمة قوية لوجه المعارضة وكسب نقطة مهمة حين قرّب الموعد كثيراً لما بعد 66 يوماً تقريباً من الآن. ورغم أن المعارضة، حزب الشعب الجمهوري تحديداً، أكدت قبولها التحدي وجهوزيته للمنافسة، فإن التعمق في قراءة المشهد يؤكد أن أردوغان قد وجَّه عدة لكمات، وليس مجرد واحدة، للمعارضة بما يعقّد من حساباتها وأوضاعها.
ففي المقام الأول ثمة قرائن عدة على أن فكرة التبكير لم تأتِ من زعيم الحركة القومية دولت بهجلي و"فاجأت" العدالة والتنمية. ليس فقط لأن الحزب الحاكم سبق أن ناقش الأمر كثيراً قبل أن ينفيه مراراً، ولكن أيضاً لأن اجتماع أردوغان ببهجلي بعد المقترح الحساس لم يستمر لأكثر من نصف ساعة، ولأن الرئيس التركي اتخذ القرار الاستثنائي بعد أقل من 24 ساعة، ولأنه قرّب الموعد عن التاريخ الذي اقترحه بهجلي شهرين كاملين. يمكن وفق هذه المقاربة اعتقاد أن نفي "العدالة والتنمية" السابق عدة مرات كان مقصوداً لذاته لمفاجأة المعارضة، رغم أن الاحتمال الآخر أيضاً قائم وله ما يدعمه من حيثيات.
بطبيعة الحال، ففرضية "مجاملة" الحليف -أي الحركة القومية- على غير رغبة من أردوغان و"العدالة والتنمية" لا تقف على قدمين ثابتتين، فـ"العدالة والتنمية" هو الحزب الأقوى في التحالف، وهو الحزب الحاكم، وهو صاحب الفرص الأفضل في الانتخابات، ورئيسه هو المرشح الرئاسي؛ ومن ثم لا يمكن أبداً أن يكون الرجل قد اتخذ قراراً يحمل هذا الكم من المبادرة والمغامرة في آنٍ معاً دون مسوغات واضحة تتعلق بالحزب نفسه وفرص فوزه.
ثانياً: تبدو مدة الشهرين قصيرة على الحملات الانتخابية المناسبة لحساسية الانتخابات -الرئاسية والبرلمانية- وأهميتها، ولعل المعارضة بحاجة أكثر من الحزب الحاكم لهذه الحملات، فضلاً عن أن أردوغان و"العدالة والتنمية" ينظمان ما يمكن تشبيهه بالمهرجانات الانتخابية (وإن كانت حزبية الطابع) على مدى الأسابيع الأخيرة.
ثالثاً: الوقت المتاح قصير نسبياً على أحزاب المعارضة من زاوية اختيار مرشح توافقي يمكنه أن يجمعها خلفه في مواجهة أردوغان. وبدرجة أقل نسبياً، فالوقت ضاغط على كل الأحزاب لمحاولة إنهاء الإجراءات الحزبية لاختيار مرشح، كل حزب على حدة، في حال لم يتوصلوا إلى مرشح توافقي أو مشترك.
رابعاً: رغم أن قانونَي الأحزاب والانتخاب في تركيا لا يُلزمان الأحزاب السياسية بإجراء انتخابات داخلية لاختيار مرشحيهم للبرلمان (والرئاسة)- فإن بعض الأحزاب تجري هذه الانتخابات الأولية لاستئناس رئيس الحزب وهيئاته القيادية بها حين الاختيار. التاريخ الذي اختاره أردوغان للانتخابات يضيّق هذا الهامش بشكل ملحوظ.
خامساً: تحوم شكوك كبيرة حول إمكانية مشاركة حزب "الخير" أو "الحزب الجيد" (İYİ Parti)، المنشق عن حزب الحركة القومية والذي تقوده وزيرة الداخلية السابقة ميرال أكشنار، في الانتخابات، حيث يتحدث قانون الانتخاب في مادته رقم 36 عن ضرورة "إتمام الحزب مؤتمره العام وتنظيمه (تأسيس فروع) في نصف عدد المحافظات قبل 6 أشهر من موعد الاقتراع"؛ لكي يحق له المشاركة.
ولأن الحزب قد أتم مؤتمره العام في 10 ديسمبر/كانون الأول 2017 ومؤتمرات الفروع في 26 فبراير/شباط 2018، فثمة جدل قائم حول تفسير هذه المادة (هل تعود الأشهر الستة على المؤتمر والفروع أم الفروع فقط)؛ ومن ثم إمكانية مشاركته.
وفي حال منعت لجنة الانتخابات العليا الحزب من المشاركة فسيصبّ ذلك -نظرياً على الأقل- في مصلحة حزب الحركة القومية الذي انشق عنه الحزب المذكور. (ثمة وسائل يمكن اللجوء إليها للالتفاف على القرار، مثل الترشح على قوائم أحزاب أخرى)
سادساً: ولعلها النقطة الأهم، إذا ما أرادت أحزاب المعارضة، وخصوصاً حزبي السعادة و"الخير"، تشكيل تحالف انتخابي على نسق "تحالف الشعب" الذي شكّله "العدالة والتنمية" مع "الحركة القومية" لزيادة فرص تخطّيهم العتبة الانتخابية (%10) ودخول البرلمان، فلن يكون أمامهم إلا نحو 10 أيام فقط؛ إذ ينص القانون على مهلة 7 أيام اعتباراً من إعلان اللجنة جدول الانتخابات الزمني، وهو المتوقع خلال 3 أيام بعد إقرار البرلمان قانون الانتخابات المبكرة مباشرة، وهي فسحة زمنية قصيرة جداً للتوافق على تحالف انتخابي وإخطار اللجنة به.
في المجمل، قد يقال الكثير عن خطوة أردوغان بالتوجه إلى انتخابات مبكرة فيما يتعلق بفكرة مباغتة المعارضة، إلا أنها تبقى -كتقييم موضوعي ووفق ما تقدم- مناورة في غاية الذكاء. لقد وجه الرجل لكمات عدة لأحزاب المعارضة في معركة جمع النقاط وأثبت مرة أخرى مهاراته السياسية التي دفعت بالكثيرين لتسميته "داهية الانتخابات" و"عبقري الصناديق"، في انتظار ما ستسفر عنه تلك الأخيرة في يونيو/حزيران 2018.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.