بوصفي فلسطينياً أحمل الجنسيَّة الإسرائيلية، فقد تعلَّمتُ في مدارس تُصنف مدارسَ "عربيَّةً إسرائيليَّةً"؛ حيث كُنا ندرس الحساب والعلوم والعربية والإنكليزية كما هو الحال في أكثر مدارس فلسطين.
بيدَ أن الفرق بيننا وبين أي طفل فلسطيني وعربي آخر، أن دراستنا لمواضيع كالتاريخ والجغرافيا والمدنيَّات بل اللغة العربية والدين هي مُختلفة تماماً تقريباً، فنحن ندرسها من منظور إسرائيلي غالباً، وفي أحسن الأحوال من منظور عام، وكأن لا علاقة لنا بها، هذا بالتأكيد غير أننا لا يُمكن أن نتخرج في المدرسة قبل أن نتقن اللغة العبرية وقواعدها، وهي اختلافات تستحق أن نقف عندها طويلاً، ولهذا ارتأيت أن أعرض عليكم شيئاً من تجربتي مع هذه المدارس.
كيف نرسم عَلَم فلسطين؟
بعد أن تعلَّمنا العربيَّةَ في الصف الأول، كان لا بُد لنا من تعلُّم العبريَّة فهي اللغة الرسميَّة في البلاد الآن، ولا يمكن التخرُّج من مدرسة من مدارسنا دون إتقانها، وفي الواقع هي ليست باللغة الصعبة مع أن حروفها تبدو غريبة إلا أننا تعلمناها بسرعة، كما أن قواعدها قريبة جداً من العربية، بالإضافة إلى وجود كلمات كثيرة متشابهة بين اللغتين، ولكننا مع ذلك لم نكن نستخدمها إلا في درس اللغة العبرية و"رحلات التعارف" التي كانت موضة العصر حينها!
كانت تلك "أيام أوسلو"، وكانت مدرستنا كغيرها من المدارس تسعى جاهدة للتأكيد بأنها مع "السلام" مهما كان شكله، وكان ذلك يُحتِّم عليها إرسالنا في رحلات تعارف إلى المدارس اليهوديَّة، وما زلتُ أتذكر رحلتنا الأولى لهذه المدراس، ولم نكن نجيد من العبريَّة إلا أقل القليل، وقد وقفت مرَّة مع زملائي نُحاول صياغة جملة مفيدة غير جُملة "مرحباً" و"كيف الحال؟".
ومع استمرار المشروع كُنا نتطور ونتعلم بوتيرة أسرع بكثير، حتى إنه كان عندي في فترة ما صديقان أكتب لهما الرسائل باستمرار، الأمر الذي حسَّن مهاراتي في اللغة العبرية حتى تمكَّنت وأنا في الصف الخامس أو السادس من تعليم جدَّتي مبادئ اللغة العبرية وحروفها وكانت تعطيني بضعة "شواقل" مقابل هذه الدروس وكُنت أطير فرحاً بذلك.
ما لا أنساه من تلك الأيام أن مُعلمة يهوديَّة طلبت منَّا أن نرسم شيئاً من أجل السلام، واقترحت بأن نرسم العَلَم الفلسطيني والإسرائيلي جنباً إلى جنب، فرسمنا العلم الإسرائيلي بسرعة وارتبكنا أمام رسم العلم الفلسطيني، لربما بسبب ألوانه وترتيبها، ولكن الأهم أن فلسطين لم تكن تُذكر أمامنا في المدرسة إلا أقل القليل، ولا أبالغ إن قلت بأن المعلمة اليهوديَّة كانت أول مَن بدأ يعلمنا كيف نرسم العَلَم الفلسطيني في المدرسة!
الْأَسْرَلَة وتكريس "الضياع"
ما لم تكن تعلمه تلك المعلمة الإسرائيليَّة أن أساتذتنا الفلسطينيين يُعانون من "ازدواجيَّة الولاء" فحتى لو شعروا بالانتماء لقضيتهم، إلا أنه يجب عليهم الإخلاص والولاء لدولة إسرائيل وتطوير وتنمية هذا في نفوس طلابهم، وبالتالي فإن فكرة الحديث عن فلسطين تعتبر "مغامرة خطرة"، هذا غير الحقائق التي تؤكد بأن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية يتحكم بشكل أو بآخر في مناهج التعليم في المدارس العربية، وقد جاء في دراسة لمركز الدراسات المعاصرة حول المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني كلام في غاية الأهمية يوضِّح الكثير من الضياع الذي كُنَّا نعيشه:
"تهدف مناهج التعليم -العربيَّة الإسرائيليَّة- إلى إنتاج شخصيَّة غير واضحة المعالم، فلا هي إسرائيلية ولا هي عربية خالصة، بل شخصيَّة خاضعة للوضع السياسي القائم ومُبررة له.. وبينما ينشأ الطالب اليهودي على قيم مرتبطة بتقديس الوطن، فإن الطالب العربي ينشأ على تكريس قيم عامة جداً وغير مرتبطة بالوجود الوطني الجماعي!".
وهذه الكلمات تجسِّد مرحلة "مُتقدمة" من التفكير الإسرائيلي تجاهنا، ففي الماضي كانت السياسة الإسرائيليَّة مُختلفة وكانت تسعى لـ"أسرلة" آبائنا بشكل صارم وواضح، فكان الاحتفال بيوم "عيد استقلال إسرائيل" شيئاً أساسياً في كُل المدارس، وما زلتُ أحتفظ لوالدي بصورة وهو يرفع الأعلام الإسرائيلية مع عدد من زُملائه، وعندما كُنت أسأله عن ذلك، يُبرر بأن الناس تعيش حالة "رعب" من المدير الذي كان يُجبر الناس على الاحتفال اتباعاً لأوامر الدولة ومخابراتها، وكان لا بُد لهم حينها من الغناء للوطن "الجديد" فكانوا يغنون "في عيد استقلال بلادي.. غرَّد الطير الشادي" وهم يُلوحون بالأعلام الإسرائيلية، ولا أعرف أحداً صوَّر تلك الأيام، أفضل مما صورها المخرج الفلسطيني إيليا سليمان في فيلم "الزمن الباقي".
كل شيء.. إلا تاريخ فلسطين!
مع أن الأجيال اللاحقة لم تعد تحتفل بيوم الاستقلال في المدارس، إلا أنني لا أذكر أننا قمنا بإحياء ذكرى النكبة خلال طيلة سنوات "المدرسة" وحالي هذا لا يختلف عن حال أكثر من درسوا في المدارس الحكوميَّة حتى يومنا هذا، فنحن في الواقع لا ندرس تاريخ فلسطين ولا النكبة وليست هناك أي إشارة لهذا التاريخ إلا في كُتب المرحلة الثانوية، ولكن حتى هذا لا يتم التركيز عليه، هذا إن تم تدريسه أصلاً، فقد كان أستاذنا يُسهب في شرح عوامل سقوط الدولة العثمانية و"المسألة الشرقيَّة" وتقاسم أملاك "الرجل المريض"، وبعض تفاصيل الحرب العالمية الأولى والخيانات العربية الذي يُبدع الأساتذة عندنا في الحديث عنها، بينما لم نجد من يُحدثنا بنفس هذه "الروح الثوريَّة" عن ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 ولا حتى النكبة والجرائم التي ارتكبتها القوات الصهيونية بحق آلاف الفلسطينيين وتهجيرها لحوالي 800 ألف منهم، ولا أبالغ أبداً إن قُلت بأن ما تعلمته من سلسلة النكبة للمخرجة الفلسطينية روان الضامن أكثر بكثير مما تعلمته في المدرسة، بل إن ما تعلمته في المدرسة عن فلسطين كان يزيدني ضياعاً على ضياعي!
جيراننا.. في فلسطين!
كيف؟ في الصف الخامس وعندما بدأنا نتعلم الجغرافيا، كُنا نتعلم عن بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، ويومها تعلمنا عن إسرائيل وعن مناخ إسرائيل وأنهارها وأشجارها، وتعلمنا عن دول كثيرة مثل اليونان وإيطاليا، ولكنني لا أذكر أننا تحدثنا عن فلسطين، وهذا لا يعني أن فلسطين لا تذكَر بتاتاً، فمثلاً في الانتفاضة الثانية كُنا نتحدث عن فلسطين أكثر، ولكن فلسطين كانت تعني حينها "الضفَّة وغزة" فقط، وكأنها عبارة عن دولة من دول الجوار، مثل الأردن ومصر، وهذا التفكير مُنتشرٌ بين أوساط الطلبة بل الأساتذة وللأسف، وقد حدَّثت يوماً أحد الأساتذة عن ضرورة توعية الطلاب سياسياً عمَّا حصل ويحصل في فلسطين، فوجدته يُشجعني ويقول: "نعم.. هؤلاء جيراننا ولهم حق علينا"، وهذا نموذج لمدى تبنّي بعض الأساتذة للأجندة الإسرائيلية دون تفكُّر ولا تدبر، أو لربما خوفاً عن انقطاع مصادر رزقهم، ولا شك أن هناك أساتذة لديهم وعي وطني.
ديمقراطيَّة.. لعن الرئيس
عندما بدأنا نتعلم عن الديمقراطيَّة كثيراً ما كُنا نتعلم بأن "إسرائيل هي الديمقراطيَّة الوحيدة في الشرق"، وكان أحد الأساتذة يؤكد لنا دائماً أننا لو خرجنا إلى أي مكان وقُمنا بشتم الرئيس، فإننا لن نتعرض لأي أذى، بينما لو فعلنا ذلك في أي دولة عربية فإن مصيرنا الشنق أو السجن في أفضل الأحوال، وهو تضليل مُخلل، واختزال لمعنى الديمقراطيَّة بشكل لا يخدم إلا "الاحتلال"، وفي الواقع في المدرسة لم نكن نستمتع بالديمقراطية لنستمتع بها خارجها، فذات يوم قام أحد الأساتذة بتخييرنا: "لو خيِّرتم بالبقاء في إسرائيل أو العيش في فلسطين فماذا ستختارون؟"، وحاولت يومها أن أمارس حقي في التعبير عن الرأي، فقلت بأنني سأختار "فلسطين" فراح الأستاذ يوبخني ويشتمني، فما كان منّي إلا أن بدأت أضحك وأضحك حتى طردني من الصف، وفي الواقع فإن الأمر كان أخطر؛ لأن السؤال نفسه فيه إشكال خطير؛ لأنه جاء في سياق مُخططات التهجير "الترانسفير" الإسرائيلية التي تبحث إمكانيَّة تهجيرنا من أراضينا إلى الضفَّة، وكان الأحرى بالأستاذ أن يُعلمنا بأن نبقى في بلادنا مهما حصل، ولكن لم يفعل وراح يمدح لنا إسرائيل ويُمجِّد.
"كيف تكون مواطناً في دولة إسرائيل؟"
لاحقاً في الثانويَّة تعلمنا عن الديمقراطيَّة أكثر من خلال كتاب: "كيف تكون مواطناً في دولة إسرائيل؟" الذي يؤكد حكاية "الديمقراطية الوحيدة في الشرق" مراراً، فنتعلم عن الحريَّات مثل "لعن الرئيس"، ولكن في الواقع لم يكن وارداً في الحُسبان أن نطرح أسئلة مثل: ماذا عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل؟ ماذا عن عائلات الشهداء الذين قُتل أبناؤهم بدم بارد؟ بينما كان يجب أن نكون بارعين في تحليل الحقوق والحريات حتى لو كانت هناك حالات تمييز عنصري، كأن نكتب عنها بشكل رومانسي أكثر من أي شيء آخر، ونستمتع بالتحليل في الامتحان، ونضيف أن هذا لا يليق بدولة ديمقراطية مثل "إسرائيل"، وقد فعلت ذلك مثلي مثل غيري وحصلت على علامات 96 في هذا الامتحان.
ختاماً..
بعد كُل السنوات الدراسيَّة وجدتني أتخرَّج في المدرسة بعلامات ممتازة نسبياً في مختلف المواضيع، بما فيها التاريخ والمدنيَّات، مع أنني لا أفقه شيئاً تقريباً عن قضية فلسطين، وكُل ما كُنت أعرفه هو مجرد بكائيات على أحوال العرب وقليل من حكايات جدّي وجدتي، وبلا شكّ فلم أكن أعرف عن اللاجئين شيئاً، ولا الفرق بين لاجئ ونازح، كما لم أكن أعرف من القرى المهجرة إلا قرية واحدة هي قرية خريش القريبة من قريتي، التي لم أتعلم عنها في المدرسة، ولكن من أطفال حارتنا، ولتلخيص الحال فقد تخرَّجت في المدرسة ولم يعلمني أحد أن ذكرى النكبة يكون في 15 مايو/أيار من كل عام.. وما أكثر أمثالي!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.