في مجتمعنا الذكوري، تجد الكثير من المشجعين لأي شاب يود أن يسافر للدراسة في الخارج، حتى لو كان متزوجاً وله أطفال، بكل بساطة لأنه ذكر!
ولكنّ هذه القيود لم تمنعني، كزوجة محبّة وأمّ لطفلة مميزة، من التقدم لطلب الدراسة في جامعة بريطانية لمدة عام كامل بعيداً عن أسرتي وأهلي وأحبتي.
بدأَت الرحلة منذ شهر ديسمبر/كانون الأول 2016، حين تم الإعلان عن فتح باب التقديم لمنحة هاني القدومي للعام الدراسي 2018/2017 في مجال الهندسة وإدارة الأعمال. كنت قد اخترت تخصص إدارة الأعمال؛ لتوافُقه مع طبيعة خبرتي العملية في إدارة المشاريع والعمل بالمؤسسات المحلية والدولية، ولكوني قد اكتسبت مهارة التفكير الهندسي بحكم دراستي الهندسة الكهربائية في مرحلة البكالوريوس.
بدأت التحضير لامتحان الأيلتس، وبدأت بتعبئة طلبات للجامعات البريطانية الشريكة في منحة هاني القدومي. كان موضوع تعبئة الطلبات مرهقاً قليلاً ويحتاج للكثير من الوقت والجهد والتركيز. قمت بتعبئة نحو 5 طلبات لجامعات بريطانية و3 لجامعات أميركية. كانت مشكلة طلبات الجامعات الأميركية أنها تحتاج دفع رسوم للتقديم تتراوح بين 100 و250$، لكن بعض الجامعات تقوم بتوفير إعفاء من رسوم الطلب. علاوة على ذلك، جميع الجامعات الأميركية تشترط التقدم لامتحان الـGMAT للتأهل للمقابلة، وقد كنت في تلك الفترة بغنى عن مزيد من الضغط والدراسة، فصرفت النظر عن الجامعات الأميركية وركزت على الجامعات البريطانية.
بدأت الردود من الجامعات تصلني على الإيميل، وبدأ التنسيق لمواعيد المقابلات. الحمد لله كانت جميع المقابلات مميزة ومثمرة، حيث إنني حصلت على 5 قبولات مشروطة؛ لكوني لم أحصل على نتيجة الأيلتس بعد.
في شهر مارس/آذار 2017، حصلت على نتيجة امتحان الأيلتس وأرفقت الشهادة لجامعة واحدة فقط، وحصلت على القبول غير المشروط من جامعة إدنبره (الرابعة على مستوى بريطانيا). أتممت طلب التسجيل لمنحة هاني القدومي، حيث إن التقديم كان موعد انتهائه في نهاية شهر مارس/آذار.
كانت المقابلة للمنحة في بداية شهر مايو/أيار عبر الفيديوكونفرانس في مكتب القنصلية البريطانية، أيضاً كانت المقابلة مميزة بفضل الله تعالى، وكنت واثقة جداً بتأهلي وحصولي على المنحة.
في شهر يوليو/تموز 2017، حصلت على بشرى حصولي على المنحة، وبدأت إجراءات التقديم للفيزا لي ولابنتي.
المعاملات بين غزة والعالم الخارجي تأخذ وقتاً طويلاً بحكم تعدُّد محطات الإرسال والاستقبال والتدقيق. خلال وقت انتظار الفيزا، كانت هناك المهمة الأصعب؛ وهي التنسيق للخروج من غزة، قمت بتسجيل اسمي على معبر رفح وبدأت التنسيق للحصول على تصريح إسرائيلي للسفر عبر معبر إيريز، وهي المهمة الأقسى والأصعب.
في منتصف شهر أغسطس/آب، وصلني جواز سفري فقط ولم يصل جواز سفر ابنتي، بدأ عداد الوقت يجري منذ ذلك اليوم؛ لأن فيزا الدخول لبريطانيا مدتها شهر واحد فقط. معبر رفح لم يفتح خلال تلك الفترة بتاتاً غير مرة واحدة للحجاج، وأنا وزميلاي الاثنان في المنحة نصارع الوقت ونبحث هنا وهناك عن أي وسيلة لمساعدتنا في السفر.
خلال ذلك الوقت، وصلني الرد بالرفض على فيزا ابنتي، ومن هنا بدأت رحلتي الصعبة وبدأت بتهيئة نفسي بالسفر وحيدة دونها.
وفي ذلك الوقت أيضاً، كنت أبعث بطلبات الرجاء لجامعتي لتقدير ظروفي وتمديد فترة التحاقي بالجامعة؛ حيث إن بداية الدراسة كانت في 11 سبتمبر/أيلول، والفيزا الخاصة بي كان موعد انتهائها في 15 سبتمبر/أيلول، والتصريح الإسرائيلي كان يحتاج فترة لا تقل عن 70 يوماً لإصداره، ومعبر رفح كان مغلقاً على عادته.
في تلك الفترة، كنا نتواصل مع مؤسسة "مسلك-جيشاه"، (وهي جمعية إسرائيلية تعنى بالدفاع عن حرية الحركة في الأراضي المحتلة)، والتي تساعد الطلبة والمواطنين الغزيين على السفر عبر معبر إيريز. انتهت الفيزا وتقدمت بطلب لتجديدها، وتقدمت بطلب آخر للجامعة لتمديد موعد التحاقي بالجامعة.
كنت تحت ضغط نفسي كبير جداً؛ لأنني استقلت من وظيفتي وركزت كل جهدي على السفر.
في آخر أسبوع من شهر سبتمبر/أيلول، كانت الجامعة قد أرسلت لي إيميلاً يفيد بأنها وحرصاً على مصلحتي كطالبة، ستقوم بتأجيل دراستي للسنة القادمة، ولكني اتصلت بهم وطلبت بدموع القهر أن ينتظروا إلى 3 أكتوبر/تشرين الأول؛ فقط لأن هناك أمل أن يصدر التصريح في ذلك اليوم.
تواصلت مع جمعية مسلك في يوم الإثنين 2 أكتوبر/تشرين الأول 2017، لطلب البشرى عن اسمي في كشف التصاريح، ولكنهم آسفون أخبروني بأنه لم يصدر القبول إلا لطالب واحد فقط وسيسافر غداً.
بكيت يومها عن كل الطلاب الذين حُرموا من السفر، وكل الذين ضاعت عليهم فرصهم، وكل الذين لم يستطيعوا السفر للعلاج أو لأي سبب إنساني آخر، كنت أدعو الله يومها أن يكرمني بمعجزة يُرضي بها قلبي وخاطري.
صباح يوم الثلاثاء، تواصلت مع الجمعية في الساعة التاسعة صباحاً، أتلمس طرف أمل عن أخبار جيدة، ولكن للأسف كان الوضع على ما هو عليه! الساعة العاشرة صباحاً اتصل بي "شادي"، أحد الموظفين الذين كانوا على تواصل دائم معنا، ليخبرني بأن أتوجه الآن إلى معبر إيريز! سألته إن كان يمزح ولكنه أعاد الجملة نفسها، لأقفز فرحاً وأجهّز نفسي في دقائق وأحمل حقائب سفري وأحمل ابنتي معي إلى المعبر للوداع الأخير.
5 ساعات من الانتظار المرير في صالة المعبر من جهة غزة وتمرُّد الموظفين الإسرائيليين وصراخهم بأنه لا يوجد لكِ تصريح وارجعي إلى غزة، وكل ممارسات الضغط والقهر. كنت آخر من خرج من صالة المعبر مع واحد من زملائي بالمنحة في الساعة الخامسة، وركبنا سيارة الأجرة وتوجهنا إلى جسر أريحا، لننتظر أيضاً 3 ساعات أخرى قبل أن نخرج إلى عمّان.
حجز لي رحلة السفر صديق العائلة في الأردن، وتوجهت مباشرة للمطار وأنهيت الإجراءات، وأقلعت الطائرة لأصل في صباح اليوم التالي إلى إدنبره.
استقبلتني عائلة كريمة من غزة، لأضع حقائبي عندهم وأتوجه مباشرة إلى الجامعة. لا أستطيع وصف شعوري في تلك اللحظة، ما بين الفرحة والفخر والامتنان والحزن أيضاً.
الآن وأنا في الشهر السابع من رحلتي، أشعر بأهمية التضحية التي قمت بها وبالفائدة التي عادت عليَّ الآن، وستعود عليَّ لاحقاً في عملي ومستقبلي ومستقبل عائلتي.
الحياة ببريطانيا رائعة والتعليم مميز، في بريطانيا تختلط مع كل جنسيات العالم، وتتفاعل مع الأفكار والخبرات والثقافات والتجارب. هذه التجربة تمكِّن الإنسان من التحرر من بعض الحصار المفروض علينا والعيش قليلاً كبشر لهم كامل الحرية والإنسانية. هذه التجربة تمكنك من الاختلاط بالعرب الذين غادروا بلادهم منذ فترة طويلة، لتجد الفرق في التأثر بالثقافة الجديدة واكتساب العادات الجيدة مع بقاء الأصل العربي في المعاملة الحسنة والأخلاق العالية.
فرصة السفر -ولو لمرة واحدة- تجعلك شغوفاً بالسفر واستكشاف المزيد؛ لأنه ربما لن تحصل على مثل هذه الفرصة مرة أخرى، خاصة إن قررت العودة إلى غزة المحاصرة.
أنصح جميع الشباب والشابات بالبحث عن الفرص للدراسة في الخارج، سواء للماجستير أو الدكتوراه، فالفرص كثيرة جداً ومتنوعة وتستقطب الشباب العربي بكثرة. مثل هذه الفرص تخلص فرصاً جديدة للعمل أو استكمال الدراسات العليا أو بدء مشاريع ريادية حسب المجال.
لا تدَعوا الحصار أو العادات والتقاليد أو نظرة الناس وكلامهم تُضعف من ثقتكم بأنفسكم وقدرتكم على تحقيق ذاتكم واللحاق بطموحكم وأحلامكم.
الحياة أقصر من أن نقضيها جالسين ننظر إلى إنجازات الآخرين ونحن لا نفعل شيئاً في حياتنا سوى الحسرة أو الحسد أو حتى الشكوى.
أتمنى التوفيق للجميع، وأتمنى أن تكون قصتي ملهمة لأحدهم أو لإحداهن، وأن تنتقل عدوى الطموح والنجاح للجميع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.