لم يبق من الحادث الذي وقع لي منذ عامين سوى ندبة أعلى شفتي، واعوجاج بسيط في أنفي، وألم خفيف في معصم يدي اليسرى ينتابني بين الحين والآخر، أما باقي المعاناة فاختفت.
مر الزمان حول الألم إلى ما يشبه الذكرى الحلوة: الدكتورة الطيبة التي وصفتني في التقرير الطبي بأنني pleasant gentleman والتلميذ الذي سافر إلى المستشفى، على بعد أكثر من ساعتين، ليستضيفني في بيته ليلة الحادث، ووفد الكنيسة الذي زارني، والناس الذين غمرتني مشاعرهم الطيبة. وقول أحد الأصدقاء، مواساة لي، Chicks dig scars (الفتيات تعجبهن الندوب) وهي معلومة اتضح أنها غير صحيحة، (أو ربما ندوبي لم تكن قد المقام!).
لما كنت في الصف الثالث الإعدادي، كنت أذاكر كالمجنون. وبسبب هذه المذاكرة الهستيرية المتصلة صارت حياتي تشبه الكابوس. وإنني، إذ أتذكر هذه الأيام، أتعجب من كل هذه المجهودات غير الضرورية. ماذا كان الغرض من كل ذلك؟ ما أهمية الصف الثالث الإعدادي؟ لو عاد بي الزمان لأنفقت هذا الوقت في تعلم العزف على الناي.
وفي إحدى هذه الليالي المرهقة شكوت إلى أحد الجيران صعوبة الحياة. فاجأني اليقين والجدية اللذان تكلم بهما جاري تلك الليلة؛ إذ قال لي: "شوف.. هذه الأيام صعبة. لكنها سوف تمر، ثم تأتي أيام جميلة، وخمن ماذا؟ هذه الأيام الجميلة سوف تمر أيضاً ثم تأتي أيام أخرى وهكذا، كله يمر، لا شيء يبقى على حاله".
كانت هذه أول مرة أفهم فيها هذه الحقيقة البسيطة، إنني الآن أدرك الحكمة الأصيلة المضمنة في قول الله: "لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم"، ما دام كل شيء يمر، فلا داعي للمبالغة."كبرها بتكبر صغرها بتصغر" على رأي الشوام. يقول المثل الفرنسي: Tout passe. Tout lasse. Tout casse. (كل شيء يمر. كل شيء يبلى. كل شيء يتكسر).
نخطئ أولاً في إدراك حجم الأشياء، وثانياً في الاعتقاد بدوامها، لكن لا شيء يبقى على حاله. يختلف الحجم والمعنى. المآسي تصبح طرائف، والذكريات الحلوة تصبح مصدراً للآلام؛ لأنها صارت من الماضي، ولا يزيدها مر الأيام إلا تباعداً. حتى ليتساءل الإنسان إن كان قد عاشها حقاً. (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا نديم ولم يسمر بمكة سامر). تبهت المشاعر والذكريات، وينسي تتابع الأيام بعضها بعضاً (واختلاف الليل والنهار يُنسي). في إحدى حلقات ذا سمبسونز، تقول ليزا سمبسون: "وداعاً ليسا. سوف أفتقدك كثيراً، ثم قليلاً، ثم مش أوي يعني!".
إن قول الناس يوم القيامة "لبثنا يوماً أو بعض يوم" لم يعد غريباً بالنسبة لي.
أحياناً تبدو الحياة فعلاً كما لو كانت يوماً أو بعض يوم. خذ مثلاً هذه الحقيقة: إنني لو جمعت الوجبات التي أكلتها في حياتي لصنعت جبلاً صغيراً. ومع ذلك، فكل هذه الوجبات لا تسد جوعي حين أكون جائعاً، وكل المشروبات التي شربتها في حياتي لا تبل ريقي حين ينتابني العطش، وكل اللحظات الحلوة التي عشتها لا تفيدني حين أكون حزيناً. الماضي غير مفيد، والمستقبل غير مضمون، والحاضر لا وجود فعلي له. يتغير حجم الأشياء باستمرار.
حتى الأشياء الضخمة، ربما لم تكن ضخمة ولا حاجة، إن ألم أسناني لا يشعر به سواي، وأحزاني الوجودية ربما كانت غير مهمة، كلنا أسرى أدمغتنا وربما بالغ الإنسان في تقدير حجم الأشياء. وكثيراً ما تكون أدمغة الناس مصدراً للعجائب والغرائب.
إن الافتراض المضحك أن مركزية أنفسنا هي ذاتها عند جميع الناس يمنعنا من رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي. فنشعر بالخجل من أشياء ربما لا يراها سوانا، أو يراها سوانا لكن لا يهتم، أو يهتم لكن ليس بذات الدرجة التي نتخيلها، فلا أحد يفكر فيك مثلما تفكر أنت في نفسك.
لا بد، إذن، أنَّ هذا الخلل في الإدراك يشوش رؤيتنا للعالم، بل يمتد هذا الأمر للكلام. إن الحقيقة المحبطة التي اكتشفتها مؤخراً أنّه، تقريباً، ليس ثمة كلام واضح إلى درجة عدم الحاجة إلى تفسير. ثمة فجوة بين المعاني في رأسي، والكلمات التي أعبر بها عنها، وفجوة أخرى بين الكلمات التي أستخدمها وتفسير المتلقي لها.
أما محاولاتي لتجنب سوء الفهم فقد باءت بالفشل الذريع وذهبت أدراج الرياح وطارت في "الهوا شاشي". أحياناً يخونني التعبير أو نبرة الصوت أو ملامح الوجه، أحياناً حتى لا أدري أين وقع الخلل، وأحياناً أعجز عن التعبير بالكلية.
فتوضيح الواضحات من أشكل المشكلات. حتى لقد صرت أتساءل إن كان أي إنسان، في أي وقت من الأوقات، قد فهم كلامي حقاً، أو إن كنت أنا نفسي قد فهمت أي شيء في حياتي على وجهه "الصحيح". التواصل الحقيقي بين الناس أصعب شيء في هذا العالم. والإنسان وحيد للغاية وغلبان ومحدود الإمكانيات. وفي إدراك هذه الحقيقة يكمن مفتاح الشفقة على الناس وحبهم.
ربما لهذا تكون أعمق التجارب هي تلك التجارب المشتركة، حين يكتفي الإنسان بالقرب ممن عاشوا نفس التجربة ويرتاح من عبء التعبير عن نفسه (ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي). إنَّ أهمية الأصدقاء والأحباب تكمن في هذا العيش المشترك، بين الأصدقاء والمحبين تكون الكلمات هامشية، لا بأس بالصمت ولا حاجة لتبديده بالكلام.
قابلت، منذ شهر، شاباً أرجنتينياً يجوب العالم على دراجة ويعيش في الشوارع منذ 13 عاماً. متاعه من الدنيا دراجته وشنطة ظهر فيها خيمة وبنطلون وقميصان. تكلمنا طول الليل في الفلسفة والحياة. سألته عن الدرس الذي تعلمه من هذه الرحلات. قال: "الناس يفعلون أقصى ما يستطيعون. لما أدركت ذلك أيقنت أنه ليس في الإمكان غير الذي كان، ففهمت الجميع، وسامحت الجميع".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.