قبل سنوات عندما بدأت أخطو نحو الصبا، كانت لي صديقة تكبرني بعامين، اعتدنا السير عصر كل جمعة على شاطئ ستانلي عبوراً بجليم، وصولاً إلى لوران، ثم التوقف في سيدي بشر والعودة، ولم يكن "جسر ستانلي" قد شُيّد بعد، وكنا نقرأ في الصحف عن مشروع محافظة الإسكندرية الذي سيغير ملامحها، وشيء واحد كان يشغلني وقتها..
كان هذا الشيء فندقاً صغيراً أحبه، ويطل على شاطئ البحر المتوسط في منطقة ستانلي اسمه "سان جيوفاني"، وكنت قد سمعت وقتها بأن المحافظة تنوي هدمه، ولم أكن أعرف لماذا يغضبني هدم الفندق الذي كنت أعشق ارتياد مطعمه؛ إذ كان يحمل خليطاً بين الأمزجة العربية الفرانكفونية والفرعونية واليونانية، وشيء ما من رائحة الماضي كان حاضراً بقوة، ففهمت عندما التحقت بكلية الآداب وقرأت عن تاريخ الإسكندرية، أن الأحداث التي تجري في المدن لا تنتهي حتى لو عَبَر الزمن، وكل مدينة لا بدّ أن تصرخ في وجه المارة؛ لتحكي كالعجوز عن شبابها الذي اختالت به.
ليس هذا ما أود الحديث عنه، كانت حكاية سان جيوفاني نافذة كي أطلّ منها على حكايات المحبّين في الإسكندرية، فهناك كنت أشاهد القُبُلات المسروقة والوعود المحفورة على الصخور، والأيادي المتشابكة، وباقات الزهور المتبادلة، ورسائل الحب المطوية في زجاجات، كان الموج يعيدها إلى الشاطئ، بعد أن يظن أصحابها أنها خلدت في بطن البحر إلى الأبد.
كنت أضع تصوّراً لكل حديث لا أسمعه، وأتابع كل حبيبين استندا على بعضهما، وكأنهما يؤديان تلاوة أو يقومان بالتعبد، فألتفت إلى صديقتي وأسألها كيف يحدث الحب؟ وبماذا يشعران؟ وهل ستنتهي قصتهما؟
علمت بعد ذلك ومع مرور السنوات أن دوافع الحب تختلف عن دوافع القُبلات واللمس أو قد يختلط الأمر بينهما، وقد ينشأ الحب ويستمر بدون شروط من القُبلات وما شابه، وعرفت أيضاً أن تلك المظاهر والأفعال قد لا تكون حباً حقيقياً كما ذكرت من قبل، فالحب ليس قُبلة واحتضاناً، ولا يكبر منفرداً دون الثقة والاحترام والصبر والإيمان بالآخر، لكن خصوصية تلك الأشياء وميزتها تكمن في دهشتها، وفي الخدر الذي تنثره على العقول، وما تفعله كي تدفع الشخص منا ليقوم ويحارب الجميع ليحظى بالحبيبة أو الحبيب، دون وعي وتقدير حقيقي.
أما عن الثقة بالنفس التي يمنحها الحب، والقوة التي يحقنها في دمائنا، والتحدي الذي لا نشعر به وهو يتخلل أجسادنا، فإنه في الحقيقة لا يحدث من (أجل) شخص محدد ولكن يحدث (بسبب) هذا الشيء الغامض الذي يجعلنا نتمسك بالحياة ونغيّر نظرتنا إلى أنفسنا نحو الأفضل، هذا الشيء هو قيمة (الحب) مجرداً بما يحمله من نُبل، خالصاً من (الأحاسيس) الجسدية، ومن المفترض أن نمتلئ به ولا نسمح لأحد بانتهاكه أو سرقته أو تشويهه، ويفترض أن نتدرب جيداً على القدرة في منحه والاحتفاظ به وتجديده وعدم ربطه بأشياء أو أشخاص بعينهم.
والآن عندما أتذكر سؤالي عن معنى الحب، وكيف يحدث وما الذي يغيره فينا.. أتذكر بالتزامن زيارتي الأخيرة لمصفّف الشعر، كان قد بدأ في ترتيب خصلاتي حينما دلفت إلى الصالون سيدة بوجنتَين ذابلتين تنحدران إلى أسفل، وكانت تبتسم بصعوبة وطلبت صباغة شيبها، وجلست تقاوم ظهور ثنيات خصرها وما فعلته فيها الأيام، فقال لي (مسيو أحمد) وهو ينظر إليّ في المرآة مشيراً إليها بعينَيه: "كانت حبيبتي قبل ثمانية عشر عاماً، لكنها تزوجت وأنجبت وأهملت نفسها".
هنا عاد السؤال يتجدد في رأسي فهو يذكر قصتهما، لكنه بدا بارداً، فاتراً، وهي كانت بلا أي تعبيرات على وجهها.
الحقيقة أنهما لم يحبا بعضهما من الأساس ولا حتى أحبا أنفسهما ولا العالم الذي يعيشان به.. ولهذا مات الشغف وتحولت الأشياء الجميلة إلى قبيحة.
حاولت العثور على إجابة بفلسفة أخرى مناسبة لهذا المشهد، فقفزت إلى ذهني شخصية بطل رواية "الحرب والسلم"، التي كتبها ليو تولستوي، كيف منحته قيمة الحب التي يمتلكها قوة لينتصر على عيوبه وأحزانه، هذا البطل هو بيير بوزوكوف، أكثر الشخصيات الروائية المحبوبة، فسألت نفسي عن الأسباب التي جعلتني مهتمة به، ولماذا أرغب في تتبعه وهو في غرف الرسم، وساحات المعارك الشاسعة، وغرف النوم المظلمة في روسيا في أوائل القرن التاسع عشر؟
كانت تصرفات بيير مثيرة جداً لاهتمامي، فهو ابن غير شرعي لأمير بالغ الثراء، ويعاني من الوزن الزائد، وضعف النظر، وهو شخص يعيش في أحلام اليقظة غائب الذهن باستمرار، متعثر في حياته، ينسى قُبعته، وتنزلق نظارته من أنفه، ساذج لا يفهم الكثير من الأمور التي تجري حوله، لكنه رغم ذلك كان مفعماً بـ"الخير" الذي يعني الحب أو المحبة متصالحاً مع نفسه وما حوله.
توحدت مع هذا البطل، فهو يشبهني في صفات كثيرة، وتجري من حولي أمور كثيرة لا أفهمها، ورغم صفاته ونقائصه لم يكن بالنسبة لي شخصية سلبية، فهو يدير ثروة هائلة، ويتمتع بالذكاء الشديد، ودائماً ما يبحث عن معنى للحياة، لديه طموحات عالية، ويتعاطف مع الفقراء، ويتمتع بعاطفة الحب فيقع في هوى ناتاشا (البطلة الرئيسية في الرواية)، ومن وقت لآخر لا يمكنه السيطرة على غضبه تجاه الشخصيات الشريرة في الرواية (مثل زوجته هيلانة).
متهور ويخطط لقتل نابليون، وهو أيضاً محظوظ، فهو بطريقة ما يطلق النار على خصمه في مبارزة يحارب خلالها معشوق زوجته على الرغم من أنه لا يجيد إطلاق النار.
كل ما سبق علّمني كيف تمنح قيمة ومخزون (الحب) القوة، وكيف يمكن لتلك القيمة أن تعيد الحياة فينا، فنصبح قادرين على حصد إعجاب الناس وتعاطفهم معنا، ما سبق يلخص لنا كيف نصبح محبوبين ومحبّين ومستمرين في الحياة!
يجب أن نعترف بأن لدينا أخطاء ولسنا مثاليين، لدينا نقص في جوانب من شخصياتنا، لكن في نفس الوقت، نحن قادرون على الدفاع عن أنفسنا، لدينا الأساس الذي يجعلنا محبوبين ونطمح لأشياء أفضل، لدينا الفضول والقدرة على البحث المستمر عن إجابات للحياة، لدينا القوة والقدرة على العطف والشعور بالآخرين في محنتهم، ولدينا رد فعل تجاه العواطف القوية، لدينا (الحب) والحياة، وفندق سان جيوفاني الذي لم يهدم!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.