"صاحب بالين كذاب وصاحب ثلاثة منافق"، دائماً ما نسمع هذا المثل الشعبي الأصيل في حياتنا اليومية. مثلاً عندما تقوم بمذاكرة أكثر من مادة في الوقت نفسه تقول لك والدتك هذا المثل، وعندما تقوم بحل مسألة رياضية بأكثر من طريقة يقول لك المدرس هذا المثل، إن كنت تهوى أكثر من لعبة مثل كرة القدم والسباحة، فتأكد أنك سوف تسمع هذا المثل، كنت في معرض الكتاب مع زملائي بكلية الطب وأردت شراء كتاب عن تاريخ السودان المعاصر فسمعت هذا المثل.
رأي التاريخ
على مر السنين، أثبت التاريخ لنا أن أكثر الناس تاثيراً في العالم كانوا من أصحاب البالين والثلاثة. فهل كانوا كذابين أم عباقرة؟
ابن سينا واحد من أعظم الأطباء في التاريخ فيكفيه كتاب القانون في الطب الذي أصبح منارة للعالم الغربي حتى الآن. الكثير لا يعلم أن ابن سينا كان من أكثر الناس معرفةً بالعلوم القرآنية، والفيزياء، والرياضيات والفلسفة فهو عالم موسوعي، فها هو لديه أكثر من بال ولكنه عبقري. وأغلب علماء المسلمين قديماً كانوا موسوعيين فلا يكتفون بعلم واحد ما دام العقل قادراً على الاستيعاب.
وننتقل بالزمن إلى وقتنا المعاصر نجد الكثير من الأشخاص الناجحين في أعمالهم من أصحاب البالين.. مثلاً، الإعلامي باسم يوسف، لقي برنامجه الرواج في الآونة الأخيرة، وأصبح من أكثر البرامج مشاهدة في مصر، ولكن من منا يعلم أنه من أحسن الجراحين في مجال زراعة القلب بأميركا؟ إنها حقاً صدمة! كيف لشخص أن يوفِّق بين مجالين غاية في الصعوبة والتخصصية كالطب والإعلام ويستطيع أن ينجح في كليهما. مصر مليئة بالكثير من أصحاب البالين الناجحين في مجالات كثيرة.
ما هو سبب انتشار هذا المثل؟
بعدما أكد لنا التاريخ والحاضر أن الأشخاص أصحاب أكثر من بال هم من أكثر الناس تأثيراً إذا استطاعوا تطويع هذا العلم.. بقي لدينا سؤال واحد: لماذا ما يزال هذا المثل مستمراً في الانتشار؟ إذا نظرنا إلى الواقع بشكل فلسفي، فسنجد أن سلوك الإنسان دائماً متوقَّع، فالإنسان كائن مُحِبٌّ لنفسه، وكارهٌ الخير للآخرين إذا لم يكن هذا الخير عنده، فدائماً ينصح الآخرين بأشياء تجعل الجميع متساوياً ولا يسبقه أحد.
ونجد أن الجنس البشري بطبيعته محبٌّ للروتين والعادات الراسخة، ويخشى أي تعديل أو تجديد. دائماً ما يحاول أن يحافظ على الوضع الحالي وعلى النظام المتَّبع، متحاشياً أي دخول عليه من الثقافات الأخرى أو العلوم. مثلاً، إذا أحب أحدهم الكتب الورقية فيدافع عنها ضد أي هجوم من الإصدارات الإلكترونية حتى إن لم يجرب الأخيرة.
أصبح هذا المثل يقال لا شعورياً حينما نجد شخصاً يقوم بعمل أكثر من فعل في وقت واحد، لدرجة أنه قريباً سوف نقول لمن يأكل ويمسك كوب ماء "صاحب بالين كذاب". هذا دليل على أن الإنسان يقلد كل ما هو حوله ويعادي كل ما هو مختلف أو جديد من السلوك البشري.
هل يمكن للموسوعية أن تعود من جديد؟
إذا كنت في كلية الطب وتريد أن تشارك في مجال ريادة الأعمال، فاعلم أن هذا طريق الفشل، إذا كنت بكلية التجارة وتحب القراءة في علم مقارنة الأديان فاعلم أنه سبيل السقوط، إذا كان تخصصك الهندسة وتحب قراءة التاريخ فلن تفلح. كل هذه بديهيات مصرية بعقلية الشعب المعاصر.
و لكن الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن يحلها سوى العقل البشري؛ فهو الوحيد القادر على حسم هذه المعضلة، فالعقل هو مخزن العلوم كلها، فإذا كانت قدرته تستطيع استيعاب أكثر من علم، فلِم لا يبادر الشخص بالقراءة فيما يحبه غير مجال التخصص؟ بالأخذ في الاعتبار أن يكون محباً للعلم الآخر، ويمكنه حقاً المساواة بين العلمين وإلا ينحاز إلى واحد ويترك الآخر.
إن العقل البشري لا حدود له ولأسراره، فيمكنه فعل أي شيء، ولكن إذا سمح له الإنسان. فيجب على الإنسان أن يسبح في آفاق عقله ويترك له العنان ليفصح عن قدراته وخصائصه العبقرية. ولكن، إذا كانت عقلية الإنسان متحجرة فلن نرى سوى شخص مهمّش لا يعرف من العلوم إلا فرعاً واحداً.
فوائد الموسوعية
لا يمكن لإنسان عادي أن يتخيل فوائد الموسوعية، دعونا نتخيل أن العقل البشري مثل الدائرة الكبيرة، والتخصص يمثل ثلث هذه الدائرة، فأين الثلثان الباقيان، إنهما العلوم الأخرى من تاريخ، وجغرافيا، وفيزياء، وفلسفة والكثير من شتى العلوم. فما العيب في أن يكون تخصصك القانون وتحب أن تدرس علم التشريح؟ ما المانع في أن يكون تخصصك الأدب ولكنك تحب دراسة الميكانيكا؟ إن العقل البشري يجب أن يتناول من كل العلوم حتى يقارب مرحلة الكمال في انتهاء الدائرة.
هل يستوي طبيب دارس للفلسفة مع آخر غير دارس لها، بالطبع لا، فإن كل ما تدرسه يصقل مهاراتك وطريقة تعاملك ومنظورك للواقع المحيط بك وطريقة تصرفك في مواجهة الأحداث. غير أن الموسوعية تُطلعك على عوالم أخرى وثقافات وتفتح لعقلك الباب ليتخيل ويبدع.
تم نشر هذا المقال على مقال كلاود
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.