"نحن نطمح إلى أن نكون صاحبات أثر حقيقي في المجتمع، لا مجرد أن نتزوج وننجب كأي واحدة من النساء".
كم كررَّنا هذه العبارة حين كنا في أوج انطلاقنا النفسي والفكري، لا يحدّنا همٌّ ولا تأسرنا مسؤولية.. نقطع الأرض قراءة في ميادين الفكر والأدب والسياسة، ونشحذ العقل حوارات في كل دينيٍّ وفلسفيٍّ ومعرفيٍّ.. نسافر، لا ينشغل لنا بال على من وراءنا، ونسهر لا يؤرقنا إلا فكرة مفترضة لا وجود لها في أرض ولا سماء، ونلتقي لا يجمعنا إلا نهم للمعرفة والتغيير..
التغيير.. نعم هو ذاك.. لعلّ نظرتنا المعتلّة للأمومة على أنها مهمة "عادية" أو دور من الدرجة الثانية على قائمة أدوار التأثير في المجتمع.. لعلّ هذه النظرة كانت وليدة رغبتنا العميقة في تغيير مجتمعاتنا القابعة وراء العالم بسنوات.. وحصل أن كان دور الأمومة من الأدوار التقليدية القليلة التي حفظها مجتمعنا للمرأة.. فشملت ثورتنا على المجتمع ثورة على الأمومة أو كادت..
لعلنا حين رددنا عبارتنا تلك كنا نعني -أكثر من أي شيء- أننا لا نريد أمومة تقليدية تقتصر على المهام الفطرية من حمل وولادة وإرضاع، وتسعى إلى العناية بجسد الطفل دون الفكر والروح.. ولم ندرك حينها أن حتى هذا الجانب من الأمومة ليس أمراً هيّناً على الإطلاق..
ثم نضجنا شيئاً فشيئاً، ودلفنا إلى عالم الأسرة، وأدركنا أنه عالم شديد القدسية باهر الجمال عظيم الأثر في الدنيا والآخرة.. ولكن، كنا قد تشربنا فكرة أن الإنجاز يكون خارج البيت كثيراً، وتسلل إلى أعماقنا أن الأمومة تقدَّر فقط حين تكونين "أمّاً و.. " فلانة أم وتدرس، فلانة أم وتعمل.. وكأن الأمومة وحدها لا تكفي ولو لمرحلة..
وأعترف بأن بعض بقايا هذه الأفكار تتسرب إليّ بين وقت وآخر، فتراني -وأنا التي سلّمت رسالة الماجستير قبل ولادتي بأيام ولم يتم رضيعي الآن 4 أشهر بعد- أقول في نفسي: متى أستطيع أن أفرغ بعض الوقت؛ لأن عندي مشروع كذا وكذا.. والحق أن هذه الأفكار مرهقة جداً؛ لأنها تُشعر بعدم الرضا عن الذات، وأنا التي ما إن ينتهِ عمل نهاري حتى تبدأ مناوبة ليلي..
أحاول في هذه الأيام أن أذكِّر نفسي بأن الذي أقوم به أمر عظيم..
فإذا كانت الإنجازات تقاس بصعوبتها، فأي شيء أصعب من الأمومة؟ لقد خبرت الدراسة والعمل والتطوع والسفر، وأعلم يقيناً أن شيئاً منها لم يتطلب مني قدر القوة والصبر الذي تتطلبه الأمومة.. وإذا كانت 40 ساعة أسبوعية من العمل تمثّل وظيفة بدوام كامل، فإن هذه الساعات تمثل بالنسبة لأي أم جزءاً فقط من ساعات عملها الحثيث..
وإذا كانت الإنجازات تقاس بالنفع الذي يعود منها، فأي إنجاز أعظم من إنجاب الإنسان ورعايته؟ المخلوق الوحيد الذي لو لم ينجز أحدٌ مهمة الإتيان به إلى هذا العالم لأصبحت كل الإنجازات الأخرى بلا معنى! أليست كل إنجازات العالم من اختراعات ودراسات وفلسفات وأبحاث وأسفار ومنتجات تزعم أنها تسعى إلى تسهيل حياة "الإنسان" أو تجميلها أو تطويلها أو جعلها أكثر رقياً أو سعادة؟
وبالمناسبة، ليست الأمومة مهمة تقوم بها كل النساء! هنا في العالم الغربي -وحديثاً في بعض مجتمعاتنا العربية- نساء أخذن بوعيهنّ وإرادتهنّ بالكامل قراراً ألا يُنجبن؛ لأن هذه المهمة شاقة جداً وضخمة جداً.. على الرغم من كون الإنجاب في كثير من هذه البلدان أسهل منه في بلادنا بمراحل؛ لتوافر الضمانات الصحية ورواتب ما بعد الولادة وإجازات الأمومة، والبنى التحتية التي تجعل حياة الأم ممكنة وممتعة مع مولودها..
وإذا كانت الإنجازات تقاس بمدى تأثيرها في النفس، فأي إنجاز أغنى من الأمومة؟ إنها مكاشفة صادقة مع النفس تُطلعك على أخبى خباياها.. وتسبر بك أغواراً لا يصلها ألف كتاب ولا تصفها مليون محاضرة في اكتشاف النفس البشرية.. إن كلّ أم تدرك أنها لم تعِ حجم النّبل الذي تنطوي عليه ومقدار الحب والحنان الذي يعمر داخلها ومستوى المسؤولية والمثابرة التي هي قادرة على تحمّلها إلا حين أودع الله بين يديها معجزتها الأكبر.. وتدرك في الوقت ذاته أنها لم تعرف مقدار الضعف والنقص والهشاشة التي تنطوي عليها نفس الإنسان إلا حينما رزقها الله رضيعاً، ترى فيه وفي نفسها مرآة صادقة للإنسان كما أبدعه الله.
وإذا كانت الإنجازات تقاس بمدى أثرها في الآخرة، فأي إنجاز وضع الله به الجنة تحت أقدام صاحبه إلا الأمومة؟
ليست هذه دعوة إلى العزوف عن كل شيء إلا الإنجاب.. ولا لتقليل قدر كل عمل إلا التربية.. لن أقع في الفخ نفسه مرة أخرى.. وأعرف أن كلماتي هذه متأثرة بالمرحلة التي أعيشها.. ولعلّي سأرى الأمور بعين أخرى في مرحلة قادمة.. ولكنها -يا أصدقاء- دعوة إلى إنزال الأمور منازلها.. إلى إعطاء الأمومة والأم حقها من التقدير والاحترام بين طموحاتنا المتناثرة هنا وهناك.. وإلى تمثّل مقولة "مقامك حيث أقامك" دون حيف أو إجحاف..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.