قبل 15 عاماً، أخضعتني جدتي -نوّر الله قبرها- لحِمية غِذائية مُكثفة بهدف إنقاص الوزن، نجحت الحمية وفقدت في شهور قليلة 18 كيلوغراماً، وخرجت يومها برفقة بعض الأصدقاء لنشتري بعض الملابس الملائمة.
لم أكن بالطبع قد فارقت عالم البدانة، ولجنا إلى أحد المحلات وسألت البائع بكل لطف أن يُريني بضاعته.
ما زلتُ -وربّي- أذكر تَجَهُّمَهُ في وجهي، وهو يحدجني بنظرة قاسية قائلاً: أنظروني قليلاً لعلّي أجدُ لهذا شيئاً يرتديه، ثم أضاف: أولئك البُدناء لا نفع مِن ورائهم.
أن تكون بديناً يعني أنك لست الأسرع بين زملائك حين يتسابقون، لست الأمهر حين يتبارون.
ولم تكن هذه تجربتي الأولى مع قلة الذوق واللياقة التي يمتهنها أهل بلدتي مع أمثالي من البُدَناء.
حسناً، هذا ليس سراً، ولست أخشى أن أذيعه، فأنا -يا صديقي- بدين منذ الصغر، وهو أمر لا يرتبط فقط بعادات غذائية سيئة، وإنما مردّه إلى جينات عائلية مشتركة في عائلتَي أبي وأمي.
أذكر أننا كنا صغاراً نلعب في باحة أحد منازل الجيران "استغماية"، بالطبع لم أكن الأسرع، ولم أكن الأمهر، ولم أكن أعرف يومها ما الذي أُجيده بين أقراني، أفلت منّي أحد منافسينا وسجّل في فريقنا نقطةً لصالحه، فتداعى رفقائي على لومي، وأغلظ اثنان منهم في القول لي ونعتوني يومها بالـ"بدين"، زادوا في الأمر وكرّروا وقرّروا وصاحوا وتصايَحوا.
يومها غلى الدم في عروقي، ولم أشعر بنفسي إلا حين جعل الأقران يستعطفونني أن أكفَّ عن ضربهما.
حكى لي بعضهم أني قضمت ذراع أحدهما بأسناني، وأنه رأى الدم يخرج من محل القضمة، أقسم لي أيضاً أن الطفل الآخر ظل يصيح طالباً العفو وقد حصرته بجسدي البدين بالحائط، وقد ازرقّ لونه وأوشك على الهلاك، يومها علمت ما الذي قد يجيده بدين مثلي، وكيف يستطيع أن يكفّ عادية الشتائم والإهانات.
أن تكون بديناً يعني أنك لست الأسرع بين زملائك حين يتسابقون، لست الأمهر حين يتبارون، لست بالتأكيد الأكثر وسامةً حين يتسابقون في مراهقتهم على حُب بنت الجيران أو زميلة الفصل أو حتى الفتاة التي تقابلهم يومياً عند محطة الأوتوبيس.
إذا أجدت في إجاباتك على معلم الفصل نعتك بأنك تمّت تغذيتك جيداً، وأن أموال أبيك لم تذهب هدراً، وإذا أخطأت جعل يتحسر على ما أنفقه أبوك في تغذيتك.
ما زلتُ أذكر مقولة معلّم الرياضيات لي وهو يقارنني بزميل ضعيف الجسم استطاع حلّ مسألة رياضية عجزت أنا عنها، قد تضحك إذا أخبرتك أنني أبكي أحياناً حين أتذكر هذا الموقف، هكذا يسير البدين بين الناس وهو محل مقارنة مستمرة لا تنتهي.
ثم إذا رأوه تتأبط ذراعه امرأةٌ حسناء، هزوا رؤوسهم وتعجبوا من أقدار الله التي جمعت مثل هذا البدين بشحومه وترهلاته بتلك الجميلة ذات القَدّ الرشيق، كيف رضيت هي أصلاً به؟!
البُدناء يبكون، وهم كما يقول المصريون: ذوو دمعة قريبة، أعجبُ بكاءٍ رأيته في حياتي كان لبدين من المساكين المصابين بمتلازمة داون الشهيرة.
هل تعلم ماذا يسمي المصريون هذه المتلازمة؟ يسمونها "العته المغولي"، وهي تسمية قبيحة لا سامح الله مَن ابتدأها، كان هذا المسكين بديناً ذا جثةٍ عظيمة لأبوَين فقيرَين يعيشان في قرية صغيرة بأحد أرياف مصر.
وأنّى لهؤلاء علمٌ أو مالٌ أو قدرةٌ على تعليم مثل هذا الطفل وتربيته، فبعثوه إلى حدادٍ سليط اللسان سيئ الخُلُق عَلَّه يجلبُ لأهله ما يعينهم على معاشه، ولقد رأيتُ ذلك الصبي المسكين في ملابس عملٍ رثة وهو يدُقُّ الحديد على النار طيلة النهار وصاحب الحِدادة لا يكفّ عن سبِّه، يستغل ضعف عقله، ويسخرُ من بدانته، حتّى إنهُ تمادى فأطاح ببعض الأرغفة من أمام الصبي المسكين وهو يأكل، ولا يفهم سبب ثورة صاحب العمل، ثم إنه -أي الصبي- جعل يتتبع الأرغفة وينظفها ويأكلها، وصاحب العمل يتتبعه ويضربه، والمسكين لا يفهم شيئاً، ويواصل الأكل.
ثم إن الحداد الظالم جعل يسخر من الصبي ويشير لبطنه العظيم، ثم يربت عليه ويتضاحك هو ورفقاء جلسته، حتى غضب الصبي وأمسك بحديدة في يده وجعل رأس الحدادِ تحت إبطه الآخر، وأخذ يشج رأسه بالحديدة حتى أدماه، فاجتمع الناس وجعلوا يستعطفون الصبي ويترجونه أن يترك صاحبهم وهو يأبى، فيلاطفونه، حتى انتبه إلى الدم فجعل يبكي لكنه لا يترك رأس الرجل، حتى أقبلت عجوزٌ من أهل البلد، نزلت عن حِمارها وتأبطت يد الصبي ودموعها تسابقها، فَلاَن لها وترك صاحبه لحاله، بيني وبين الحادثة ما يزيد على العِقدين، وأنا أذكر دعاء العجوز على الظالمين الذين يسخرون منه ولا يراعونه.
هكذا رأيت البُدَناء في بلدي، وأنا "بدينٌ صغير" أعيشُ في ورف أهلي وحَيِّهم، ما لاقيت من هذا العنت إلا القليل، إلا أني رأيت غيري يعانون، وحين كبرت أبصرت ألواناً أُخرى وصنوفاً متنوعة من معاناة البدناء.
أنت المسافر غير المرغوب فيه لقائدي ومرتادي مركبات النقل العامة، وسبب تأفّف الراكب بجوارك، وسبب ضيق الراكب الذي تمر بجواره في صعودك وهبوطك.
أنت الزميل الذي يُعرِض كثير من زملائه عن دعوته للركوب معهم في سياراتهم الخاصة، وأنت كذلك مَن ينتظر دائماً في أي نشاط رياضي أن يعطف عليه أحدهم ويعطيه الفرصة؛ ليشارك في لعب الكرة أو غيرها.
أعرضت تماماً بسبب هذا الأمر عن مشاركة أصدقائي لعب كرة القدم، وما زلتُ أذكر يوماً قول أحد أصدقاء الدراسة لرفيقه الذي يشير عليه بأن يختارني في فريقه للعب كرة القدم: "لا يا عم، نحن أصدقاء، لكنه لا يزال بديناً!".
أما البدينات فحدِّث ولا حرج عن العنت الذي يلاقينه في حياتهن، وعن نظرة المجتمع الشرقي لهن وقلّة تقديرهن، في بلدتي كنت أسمع الجارات "الطيبات الفاضلات" يتهامسن عند مرور شابة بدينة من بلدة مجاورة تأتي للدراسة في أحد معاهد البلدة، كنّ يلمزنها، يتحسّرن على حالها وعلى قلة فرصتها في الزواج، حتى إن إحداهن أوقفتها ذات مرة وقست عليها وهي تطالبها بالكفّ عن الأكل والخضوع لحمية؛ لعل أحداً يرغب في زواجها، ولعل "بَخْتها" يأتيها.
وقفلت الشابة باكية عائدة لبيت أبيها، ولم أرَها مرة أخرى تمر من هذا الطريق، قبل أيام حكى بعض فاقدي البصر كيف يضايقه أطفال بعض الحارات التي يضطر للمرور بها، وهذا للأسف مسلك سيئٌ ينتشر في مجتمعاتنا التي لا تعترف بأصحاب الاحتياجات الخاصة ولا تراعيهم، وقد رأيته في حق أمثالي من البدناء.. كثيراً جداً.
اليوم نقلت إحدى مريضاتي من إحدى الوحدات إلى أخرى في طابق أعلى لأسباب تنظيمية بحتة، المريضة بدينة للغاية، وفي حالة مرضية مزرية فتحتاج إلى كثيرِ مساعدة، حين قابلت ممرضة القسم بادرتني متسائلة لماذا نقلت المريضة "س" إلى قسمنا؟ لم تكن تحتاج لإجابة بل أرادت أن تعبر عن استيائها وقد أظهرته بشكل مباشر قائلة: لو أنك نقلت إلينا نصف القسم كان أهون من هذه المريضة، إنها بكل بساطة بدينة وغير مرغوب فيها.
حين ولجتُ لزيارة السيدة "س" وبعد دقائق من الفحص الطبي وبعض المناجزات ذكرت لي أنها سمعت حديث الممرضة، وأنها استاءت بعض الشيء، لكنها لا ترغب في تصعيد الأمر بأي صورة. وأضافت لي مباشرة قبل أن أخرج: قد عشتُ طيلة عمري بدينةً، وليس جديداً عليَّ أن أُحِسَّ بأنني غير مرغوب بي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.