بين عشية وضحاها صِرتُ أم أربعة وأربعين، مرّ العمر دون أن أشعر، دارت عجلة السنين ومرّت، غالباً بقسوة وكثيراً برحمة، وأحياناً بدغدغة ملأت القلب بضحكات حفرت مكاناً بارزاً في الذاكرة.
تفحصت وجهي وجسدي في المرآة وكأنني أراني للمرة الأولى، من أين أتت تلك التجاعيد؟ وهذة الشعيرات البيض لا أعرفها ولا أريدها.
كيف اكتسبت عيناي تلك المسحة الحزينة وأنا الضاحكة السن أبداً؟
نظرت مليّاً للمرآة ومددت يدي علّي ألمس نفسي الشاخصة تتفحصني.. فمدت هي الأخرى يدها.. لكنّ جداراً بارداً فصلنا، أحسست أنها تريد نفس ما أريد، كانت تشتاق لتأخذني في أحضانها ونبكي سوياً، لكن الجدار حال.
ابتسمت لي في حنو وقالت شيئاً، لم أسمعها، شاهدتها تفتح فمها وكأنها ترفع صوتها بنفس الشيء، ولكنني أيضاً فشلت في سماعها.
طأطأت رأسها في حزن، ثم رفعتها وأشارت خلفها.. شاهدت العشرات منّي يصطففن خلفها.. لكنهن كنّ بأعمار مختلفة.. تلك الصغيرة الواقفة في آخر الصف بشرائطها الحريرية وشعرها المغسول وعينيها الذكيتين، كانت لا تتوقف عن القفز والحركة، تريد مكاناً بارزاً في الصف ولا يعجبها مكانها.
وتلك الأخرى في منتصف الصف وقد صارت شابة تحمل عيناها الكثيرَ من الأمل والطاقة، لكنها لم تفقد عادة القفز والململة، تنظر بصبر فارغ وتريد مكاناً متقدماً، وتلك الثلاثينية، وكأنها أخرى لا تمت لمن قبلها بصلة، قد انشغلت بأشياء كثيرة آخرها نفسها، واصطفت أمامها الأخريات وشاركنها نفس الانشغال، حتى وصلت إلى أول الصف تلك التي تمد يدها على سطح المرآة تريد الخروج.
وتتحسس تفاصيل جسمها، وتنظر باستنكار للشعيرات البيضاء، وتشير للصغيرة في الخلف حتى تتقدم، لكن يبدو أن الصغيرة في قفزها الدائم وتعجّلها في التقدم لا تراها، خاصة والمصطفات أمامها كثيرات.
نظرت إليّ بيأس وطأطات رأسها مرة أخرى، حاولت أن أسألها بلغة الإشارة: كيف صارت وصرت معها هكذا؟ بعد تكرار السؤال عشرات المرات يبدو أنها فهمتني.. أشارت في الفضاء المسطح البارد خلفها.. شاهدت مئات الأشخاص أعرفهم جيداً أو أعرفهم بالكاد.
رأيتهم واختلطت بهم على مدار العمر.. لكنهم ليسوا كما عرفتهم.. كانت ملامحهم أكثر غرابة.. بعضهم كان يبتسم في طيبة ويدفع الصف ليتحرك والبعض كان يضع قدمه ليسقط الواقفات في الصف وقد تلونت ملامحهم بألوان كأنها مهرج سيرك مجنون يخفي جنونه بألوان رسمت وجهه بملامح شيطانية.
وما بين البسمات وشهقات الخوف.. كان وجه الواقفات يتشكل والعينان تكتسب لوناً آخر.. لون يكسوه الشجن. نظرت إليّ طويلاً من خلف جدار المرآة، وتفرست وجهي بعمق حتى تتأكد أنني فهمت.
لكن هل فعلاً فهمتُ؟ تنهدت ومع التنهيدة أغمضت عيني لا إرادياً.. وعندما فتحتهما كانت المرآة خالية الصفحة إلا من انعكاس وجهي، مجرد انعكاس لا يحمل إلا نسخة مكررة بغبغانية منّي.
أين ذهبت الأخريات.. لمَ تركنني؟
ارتطم السؤال بالسطح اللامع البارد وارتدت برودته لتلف قلبي، ففهمت لماذا ابيضت الشعرات؟ ومن أين أتى ذلك الحزن الذي حلّ محل لمعة العينين؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.