عنكم أنتم، جيلَ الكتب الإلكترونية، الشبان الصغار، سريعي الملل، قليلي الصبر، المتعجلين للمتعة، الساخطين على الكُتّاب، المحرومين انثناءة زاوية الورقة السفلية تحت الإبهام بين الصفحة والصفحة.
لا تتعجلوا، لن أتحدث عن سحر الكتب الورقية، عن ملمس أوراقها أو رائحتها، لن أتحدث عن تلك الحكة الملحّة التي تعتري القارئ العتيق في راحتيه لا يطفئها إلا كتاب، فأنا نفسي أهملت هذه الحكة التي خلفها بتر الكتاب من يدي، ووجدت نفسي مرغمة على تصفح الـPDF، غير محتاجة في ذلك إلا إلى بنان السبابة!
ليس عن ذلك سأتحدث، ولكنني سأتحدث عن شيء أكثر أهمية سرقته الكتب الإلكترونية من أمهاتها الورقية، ألا وهو احترام القارئ للكِتاب!
لم نكن أسرة تمتلك مكتبة كبيرة ترتص فيها المجلدات في صدر غرفة الضيوف، بل أذكر تماماً كيف كنت أضطر إلى إزاحة بعض الأثاث حتى أتيح لجسدي الصغير مكاناً للعبور إلى خزانة في الجدار، فأفتحها مواربة، ثم أتسلق على الأثاث في ذلك الحيز الضيق حتى أصل إلى رفها العلوي، وأُمضي على رؤوس أصابعي في تلك الوضعية الشاقة مقدار ما تتحمله قدماي الصغيرتان، متصفحة الكتب التي يحتفظ بها والداي، فأختار أخيراً كتاباً، أنزل به كغنيمةٍ من هذه الغزوة الجديدة، ثم أعكف على قراءته حتى أتمه مهما كان، فلم يكن لديّ الكثير من الخيارات، وكان عليّ أن أدرب نفسي على الإصغاء إلى الكاتب بأدب مهما تعقدت لغته أو غمضت جمله أو ساورني أثناء قراءة كلامه الملل.
ولذا، يستفزني بعض أولئك القراء الجدد في مجموعات القراءة الجماعية في فيسبوك، تستفزني خلافاتهم على عناوين الكتب، تلك التي تصل حد تبادل الشتائم والاتهام بالجهل واستخدام الملصقات المستفزة، ولا تنتهي إلا بإيقاف التعليقات أو حظر الأعضاء من قِبل المسؤولين.
تستفزني تلك المنشورات التي تبدأ بعبارات غاية في النزق والتدلل:
"لا أدري كيف نالت هذه الرواية إعجابكم! لقد انتهيت منها بالأمس ولم أجد فيها أية متعة!".
"لقد قمت بتحميل الكتاب الفلاني ولم أستطِع إكمال أكثر من عشرين صفحة!"
"هل لديكم رابط تحميل الكتاب الفلاني أم أن قراءته مضيعة للوقت؟".
ومع كل عبارة من هذه العبارات ستجد كلمات من مثل رابط أو موقع أو تحميل أو مشتقاتها. صار اقتناء الكتاب أمراً غاية في السهولة لا يتطلب أكثر من شبكة واي فاي وضغطة زر. بضغطة زر واحدة سيكون بين يديك أي كتاب، أي كتاب! مهما غلا ثمنه أو عزّ توفره في المكتبات!
بعيداً عن مناقشة أخلاقيات التعدي على حقوق النشر التي نقترفها جميعا بهذه الممارسة، لكن ضغطة الزر هذه جعلت القراء الجدد سريعي الملل، نزقين، مدللين، قليلي الصبر، يبحثون في الكتب التي "يحمّلونها" عن متعة فورية، يطالبون كُتابها بحبكة غاية في التشويق أو أسلوب غاية في الجذب من الصفحة الأولى، حتى إذا تجاوزوا الصفحة العشرين دون أن يجدوا ما يروي تطلعاتهم ألقوا بجهد الكاتب إلى سلة المهملات بضغطة زر أخرى، وصبّوا جام غضبهم عليه في منشورٍ في واحدة من هذه المجموعات، يوبّخونه على تضييع وقتهم ويوبّخون معه بالجملة كل من نصح بهذا الكِتاب مسبقاً أو أشاد به!
المشكلة أن هؤلاء القراء الجدد يتعاملون مع الكِتاب كسلعة عليها أن ترضيهم، تماماً كما تفعل وجبة السوشي أو كوز المثلجات أو السترة الجديدة التي ينفقون لأجلها المال، فإذا لم تنَل رضاهم سخطوا على الكاتب كما يسخطون على صاحب المطعم أو بائع المثلجات أو شركة الملابس! والمفارقة العجيبة أنهم في حالة الكتب لا يدفعون المال حتى!
وأسأل نفسي: لماذا يقرأ هؤلاء؟ أم أنهم يجارون الموضة ويستعملون أسماء الكتب للظهور بمظهر المثقفين فقط؟
إن المتعة هي واحدة فقط من غايات القراءة الكثيرة، وقد تكون متعةً يطلبها القلب فتحققها بلاغة الكاتب الأدبية في استحضار المشاعر، أو تسليةً تتحقق في قصص ذات حبكات مشوقة، ولا بأس في ذلك. ولكن هدف القراءة الأهم هو الفائدة، هو أن "يتعلم الإنسان بالقلم ما لم يعلم"، هو تقديم معلومة، وتوسيع أفق، والتعرف إلى ثقافة أخرى، واكتساب معرفة في اختصاص ما، ورؤية الحياة من منظور شخص آخر حتى لو لم نتفق معه. وقد لا تنطوي هذه الأمور على المتعة التي يبتغيها قراء اليوم المستعجلون، ولكنها حتماً تحمل كل الفائدة التي تنقصهم، والتي تبني الشخصية وتسمو بالخلق وتنمي العقل وملكات التفكير.
وهذا الأمر يحتاج إلى صبر، وإلى أدبٍ مع الكِتاب كأدب الإصغاء الذي نتحلى به أمام الكبار حين يوجهون أحاديثهم إلينا. قد لا تكون كل الأحاديث التي نصغي إليها ممتعة بالضرورة، وقد يطول بعضها حتى يرهقنا، ولكننا رغم الإرهاق والملل موقنون بأهمية ما يقدمه لنا هذا الإصغاء، وبضرورة التحلي بآدابه بعيداً عن تقديرنا المتضخم لذواتنا.
كذلك الأمر مع الكِتاب، أنا لا أعرف كيف يستطيع القارئ أن يشرع في قراءة كتاب ما ثم يتأفف مللاً بعد عدة صفحات منه، فيرميه متذرعا بأنه "لم يشدّه"! لا أذكر أنني توقفت عن قراءة كتاب ولم أكمله لأي سبب إلا وشعرت بوخزة في ضميري كلما ذُكر اسمه أمامي، وكأنني إذ تركته انسحبتُ من حوارٍ مع كاتبه بوقاحة ودون أعذار.
كنت ألزم نفسي بالقراءة حتى لو أثقل الكاتب عليّ؛ لأنني كنت أريد دوماً أن أعرف ماذا يريد أن يخبرني به هذا الإنسان من خلال هذا الكِتاب الذي بذل فيه كل هذا الجهد، هذا الجهدُ الذي يستحق الصبر والاحترام والمتابعة حتى النهاية، لا إطلاق الأحكام من الصفحات الأولى!
ورغم أنني تلوثت بلوثة الكتب الإلكترونية وصرت من قرائها، فإنني لا أزال أحتفظ لأي كِتاب أقابله سواء على رفّ أو في موقع الكتروني بذات الاحترام.
لا أزال أذكر عند قراءة أي كتاب غزواتي المتكررة على رف الخزانة العلوي، لا أزال أذكر تحديقي المتواصل بأصناف الحلوى في دكان العم أبي ياسين وفي يدي مصروفي اليومي، ثم إشارتي أخيراً إلى قصة من بين القصص الملونة المعلقة بملاقط الغسيل على بوابة الدكان الخشبية الزرقاء، لا أزال أذكر قراءاتي السرية لكُتّابٍ على قائمة والديّ السوداء مُخفية كتبهما بغلاف مقرر الرياضيات، لا أزال أذكر غيظي من الزملاء الذين يستولون على كتبي ثم يهملون إلحاحي المتكرر لاستعادتها، لا أزال أذكر ترددي الكبير أمام رفوف المكتبات قبل الإقدام على شراء بضعة عناوين مقترحة من قِبل أصدقاء مغامرةً بمدخراتي الشهرية، لا أزال أذكر تلك الليلة التي جمع فيها والدي عدة كتب ممنوعة في كيس بلاستيكي أسود، ثم رماها في النهر تحسباً لحملات التفتيش، ففقدتها في تلك الليلة إلى الأبد!
عن هذا الفقد أتحدّث، عن هذه اللهفة، عن هذا الانفعال، فهل سيعرف قراء الـPDF النزقون كل هذه المعاني التي يحملها لي الكتاب؟ هل سيفهمون، هم الذين يقتنون الكتب ثم يعدمونها بضغطة زر، إن الكتاب بالنسبة لي هو موعد مضروب مع كاتب ما، كاتبٍ يقطن في مكان ما من هذا العالم الشاسع، كاتبٍ كتب كتابه لي أنا، لي وحدي، طالما أنني اخترته لنفسي، ففتحت درفتيه، وألقيت السلام، وجلست أصغي!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.