استطاع نجيب محفوظ بحرفية وعمق شديدين أن يجسد الحارة المصرية بكل تفاصيلها في أعماله الأدبية، فقد تأثر في معظم أعماله بحي الجمالية التي شهدت مولده في يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 1911م، وفترة صباه قبل أن ينتقل مع أسرته بعد 13 عاماً إلى حي العباسية.
فكثيراً ما كان يذكر ميدان بيت القاضي والبيت المطل عليه الذي شهد مولده، لكن هذا البيت هدم وحل محله بيت آخر يحمل رقم 8 حارة قرمز، يقول محفوظ عنه: "كان البيت مليئاً بالأشجار، كنت أمد يدي فأمسك أوراق الشجر، كان شجراً نسميه شجر ذقن الباشا".
فرغم أنه في بداية محفوظ الأدبية كان مستلهماً حكايات رواياته "رادوبيس، كفاح طيبة، عبث الأقدار" من التاريخ الفرعوني، فإنه عاد تلقائياً إلى البيئة التي عاش فيها وتأثر بها؛ ليجعل تلك المنطقة الشعبية بكل تفاصيلها صاحبة الحيز الأكبر في أعماله الأدبية، فلم تخلُ أي من قصصه من ذكر الحارة، بل أحيانآ كانت تدور الحكاية بمجمل تفاصيلها داخل الحارة.
أدب الواقعية
عُرف إنتاج محفوظ الأدبي -بداية من رواية "القاهرة الجديدة" وما بعدها- بالواقعية؛ ليسرد لنا الواقع الذي يعيشه بكل ما فيه، فقدم صورة واضحة للواقع المصري، وجعل من الحارة العالم الخاص به في معظم روايته، الذي منه ينطلق ليتحدث مع القارئ.
استطاع أن يسرد عالم الحارة بشكل سلس دون أن يغفل عن أدق التفاصيل، فقد جعل حارات القاهرة أمكنة يروي من خلالها الحياة، فنراه في رواية "زقاق المدق" وصف الحارة المصرية خلال فترة الاحتلال البريطاني، وتحدث عن توهج الحركة الوطنية في مواجهة هذا الاحتلال وبدايات ثورة 1919م، وما تبعها وكيف انعكست على المجتمع المصري الذي يمثله أسرة "السيد أحمد عبد الجواد" في الثلاثية (بين القصرين- قصر الشوق- السكرية)، فمثلاً في رواية "حديث الصباح والمساء" يصف الميدان الذي ولد به في أول الرواية قائلاً: "ميدان بيت القاضي يضم قسم الشركة الحديث وبيت العدل والمال القديم" تدور بعض من أحداث الرواية في منطقة عرفت بحارة الوطاويط.
(أولاد حارتنا- الحرافيش)
وصل في روايتي "أولاد حارتنا"، و"الحرافيش" إلى توهج وتألق شهد له الجميع في وصف الحارة، وتجسيد معاناة وأفراح قاطنيها، فالحارة لديه هي السور العتيق، والتكية، والسبيل، والكُتاب، والمقهى، والغرز، والقرافة "الجبانة"، والدكاكين، والشوارع الضيقة، والقبو، والبيوت القديمة المتهالكة والقصور العالية، والثياب الرثة والجميلة، فهي حياة لأناس فقراء وأغنياء، والفتوة.
وعن هذا العالم في كتاب "نجيب محفوظ.. يتذكر" لجمال الغيطاني، يقول: "ترجع ذكرياتي عن الفتوات إلى منطقة الحسين، كان من المعروف في صغري أن لكل حارة أو حي فتوة، شفت الفتوات في نوعين من الحوادث، أولاً: الزفة، كانت الزفة تبدأ بعد منتصف الليل، أصحو من النوم على واحد بيغني والصهبجية يردون وراءه، وحملة الفوانيس يمرون من أمام قسم البوليس في ميدان بيت القاضي، يظهرون من حارة معينة، غالباً في الزفة يحدث أن يعترضها فتوات؛ لأنه لو فيه ثأرات قديمة تصبح هذه أفضل فرصة للثأر، الفرح ينقلب إلى نكد، شفت زفة تنقلب إلى خناقة دموية أمام القسم.
النوع الثاني: كان الفتوات يتفقون على الخروج إلى الخلاء، فتوة العطوف مثلاً مع فتوة قصر الشوق، للخناق، لكل فتوة رجاله، يشيلون المقاطف المليئة بالطوب والزجاجات، ويتجهون كلهم إلى الخلاء، خلاء كان اسمه "أرض المماليك، وبعد أن يحطم كل منهما الآخر كنت أرى النتيجة، السيارات تحملهم إلى قسم الجمالية تحرر لهم المحاضر، ثم تجيء عربات الإسعاف لتشيل الجرحى".
الفتوة هو الشخصية الرئيسية التي تدور حولها الحكاية في "أولاد حارتنا، الحرافيش"، فهو يبسط قوته على أهل الحارة ليحصل منهم على الإتاوات؛ ليحميهم من فتوات الحارات الأخرى، فنراه كيف يبسط قوته على الحارة وهو جالس على عرش الفتونة.
ويفعل فيها ما يريد حتى يجيء إليه فتوة أكثر قوة وصلابة ومهارة في استخدام النبوت فيصارعه وينتزعه من عرش الفتونة ليجلس الآخر عليه، ونرى فيهما كيف رسم ببراعة معالم وملامح الحارة ووصف أهلها وعلاقتهم فيما بينهم وبين الحارة.
والحرافيش الفقراء الذين ينتظرون دائماً من يحميهم سواء من الأغنياء أو الفتوات، فهو يرى أن قوة وظلم الفتوة نابعة من تفرقهم، رغم أنهم القوة المحركة للحياة في الحارة، فهم من يعملون ليلاً ونهاراً وينتجون، وهم الشريحة الأكبر في الإتاوات التي يجمعها الفتوة.
وهم من لا يعترضون على أوامر الفتوة، لكن رغم كل ذلك يراودهم من آن لآخر حلم ظهور فتوة يدفع عنهم الظلم وينتصر للحق مثل "عاشور الناجي"، الذي لم يتحقق سوى في نهاية رواية الحرافيش، أو حلم حصولهم على أنصبتهم المغتصبة من الوقف في رواية أولاد حارتنا.
ويصف محفوظ استخدامه لشخصية الفتوة في "نجيب محفوظ.. يتذكر": يشبه استخدامي للحارة، يعني في أولاد حارتنا كان الفتوات رمز القوة الغاشمة، في الحرافيش مثل الحكام، الظالمين، استخدام رمزى..".
فالحارة لدى محفوظ عالم مغلق على ذاته، مفعم بالحياة، لا يرتبط بزمان أو مكان محدد، لكن يدفعنا إلى أن نفكر في الحياة ذاتها، وما قد يحدث فيها من تقلب الأحداث وتغير المفاهيم، وما يحدث للإنسان بمرور الزمن، وهذا يرجع إلى قدرته الفائقة على الخيال، وربطه بشكل غير مباشر مع الواقع، وكيف تتأرجح الحياة بين الخير والشر، الحرافيش والفتوات.
فالقارئ لأدب محفوظ سوف يجده يدعوه للتأمل والتفكير في الحياة بعمق، حتى لا نكون كما قال: "آفة حارتنا النسيان".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.