عن اسمي الذي جلب لي المشاكل في تونس

عدد القراءات
503
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/06 الساعة 16:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/06 الساعة 16:31 بتوقيت غرينتش
A young woman texting on the phone while rushing down the street.

لم يحدث أن اعتقدت في أثناء طفولتي، أن الأحلام من الممكن ألا تتحقق، خاصة لأولئك المعطوبين والمولودين في زورق.. زورق بلا مجداف، من يُولد فيه، فكأنه ربّان سفينة يسير في البحر بلا خريطة ولا أهداف. منذ أن أطلقت أولى صرخاتي في هذه الدنيا ونحن نسافر ونرحل، لكن رحيلنا الأخير كان بمثابة موجة قوية قذفتنا معها في عرض البحر وتلاشت.

"جهِّزوا حقائبكم سنرحل"! كعادتهما، تصلنا عبارة والديَّ مختصرة دون اختصار. تجاهلتُ سببه آنذاك؛ ففضولي للتعرف على مدينة والدتي وعائلتها قد نزع عني الرغبة في الاستفسار. أخيراً، سنستقر في بلدنا بعد مكوثنا بمحطة ليبيا للانتظار!

ها قد عدنا لتونس ولمدينة منزل تميم بالتحديد. تلك المدينة التي لا تعير اهتماماً للخصوصية. كانت مزدحمة أيما ازدحام، أعلام البلاد المُعلَّقة أضفت حُمرة حجبت عني سطوة اللون الأخضر في رمشة عين ودون سابق إنذار. لون كنت أقف أمامه كل صباحٍ مدرسيٍّ لأرفعه مع بقية الأطفال.

"إيجا، محلول، شكون، كهاو".. كلمات تونسية وصلتني من أفواه المارين بجانب سيارتنا طول الطريق. عندما سمعتها لأول مرة، شُكّلت لديَّ حالة غريبة نوعاً ما، لم يكن بوسعي شرحها حينها ولا حتى الآن.

بدأنا حياتنا الجديدة في تونس… إلى الآن، الأمور تسير على أفضل ما يرام.. لكن.. ما إن يتم سؤالي من أين أنا، وما اسمي، كان بمثابة امتحان معقَّد، ما كنت أستطيع الإجابة عنه دون ترك بعض الأخطاء.

ورغم أن ليبيا وتونس قد تجاورا جغرافيّاً، فإنهما تباعدا في بعض التقاليد والأعراف. ففي مدارس ليبيا مثلاً، كان لقب العائلة يُختصر باسم الأب، عكس مدارس تونس، التي تعتمد لقب العائلة الكبيرة للتعريف بالأسماء.

تسألني إحدى المعلمات التونسيات في أول يوم دراسي:

– ما اسمك؟

– ريحان محمد.

– أهذا لقب العائلة أم اسم والدك؟ أخبريني بلقب العائلة وحسب!

أحتار، ولكن ماذا تريد مني بالضبط؟ كيف أجيبها؟

– أجيبيني يا ريحان، لديَّ درس قد تأخرت عنه، ما هو لقب العائلة؟

– ريحان محمد (أعيد إجابتي).

تتوتر عليَّ أكثر وتبدأ بالصراخ: لن أظل معك طول النهار وأنتِ تكررين هذا الهراء! سأتجاوز خانة اسمك إلى أن أتحدث مع أحد والديك في الغد، والآن.. من أين أنتِ؟

يا إلهي، ما هذا النهار؟! إنني بالكاد أفهمها، فكيف لي أن أعطيها الإجابات التي تريد؟! كنت في مشكلة الاسم، وانتقلت معها إلى أكثر الأسئلة تعقيداً في حياتي، من أين أنا بالضبط؟

أتمالك نفسي دون أن أستطيع إخفاء علامات الحيرة من وجهي، أنظر إلى النافذة ويداي قد شبكّتهما للوراء، لا حلَّ لدي سوى أن أجيبها بصدق ودون أي صنصرة أو التواء.

– وُلدت في ليبيا وعشت هنالك قبل مجيئي بأسبوع إلى تونس، والدي من مدينة القصرين ووالدتي من مدينة منزل تميم، وأنا الآن أعيش في "سيدي جمال الدين".

– أقسم أنك تريدين أن تجنّنيني يا فتاة! الإنسان لديه مكان واحد يذكره وأنتِ لِم ذكرت جميع تلك الأسماء؟ أريد اسماً واحداً فقط كي أكتبه هنا!

– ولكنني لا أعلم! أنا كل تلك الأسماء، لا أستطيع اختيار مكان يختصرني دون أن أذكر جميع تلك المدن!

في ذلك الوقت، لم أكن أعي أن الناس يختصرون أنفسهم بمدينة دون ما سواها وإن تشاركت مدن أخرى في نشأتهم، وأنا تونسية ولكنني لم أستطع حينها اختصار انتمائي إلى مدينة لم تطئها قدامي سوى أسبوع يتيم في دفتر حياتي. لم أستطع تجاوز ليبيا وكأنني لم أُخلق هناك، ولا أن أشعر بأن اختلاف أصول والدي ووالدتي أمر طبيعي أستطيع عدم ذكره حتى وإن لم أقم بزيارة مدنهما من قبل.

في صباح اليوم التالي، أتى والدي إلى المدرسة وأخبر المعلمة بأن الاسم الرابع في شجرة العائلة هو ما كانت تبحث عنه بين كومة تلك الأسماء، ثم اختصرني لها بمسكنٍ جديد، سأشير إليه كلما سألوني من أين أنا. لم أُخفِ دهشتي من قدرة الناس على تجاوُز بعض المفاهيم، ولكنني رضخت كي لا أسبب لنفسي وللمدرسين المزيد من العناء.

بعد تلك الحادثة، انتقلت إلى شوط آخر من الحيرة، بفضل مُعلم لم يقدِّر أنني ما زلت أختلف معه في اللهجة. كنا بالفصل، أخذت أرسم على طاولة الدراسة وقد سرحت عن درسه كلياً دون أن أشعر بأنه يراقبني منذ أول لحظة أمسكت بها القلم، ولكي ينهاني عن مواصلة الرسم، بادرني القول بجُمل لم أفهمها جيداً؛ لأنه قالها بسرعة وبلهجة خاصة جداً بأهل المدينة، لم أستطع فك معناها في بضع ثوانٍ.

بقيت أنظر إليه دون أن أتوقع أنه قد طلب مني الخروج من الفصل عبر تلك الجمل. أعاد ما طلبه مني بنبرة أسرع وبعصبية أكثر، ولكن هيهات أن أفهمه الآن.

اعتبر أنني قد تجاهلته وقلَّلت من احترامه عندما لم ألبِّ رغبته في الخروج، فأتاني بعصاة زيتون وبدأ بضربي بطريقة وحشية. ضربني على وجهي وكتفيَّ ويديَّ فترة وجيزة، إلى أن أحس بأن ما فعله بي قد ارتقى لتأديبي ونهيي عن كسر كلامه في مرات قادمة.

للأمانة، هو ما كان ذلك المعلم القاسي، وأيضاً لم يكن الألطف، لكنه لم يتنبأ ببساطةٍ بأنني لم أكن أفهم لهجته.. لهجته تلك التي أصبحت لهجتي أيضاً بعد أن مكثت في مدينة والدتي سنوات وامتلكنا منزلاً، أستطيع من خلاله أن أضع عنواناً ثابتاً يساعدني على ملء تلك الخانات التي تطلب مني تحديد موقعي في هذه الحياة.

أصبحتُ من تلقاء نفسي أختصر أَمْكنتي تلك بتقديم اسم مدينة واحدة. استطعت أن أقول دون حيرة، إنني من مدينة "منزل تميم".

بعد أن كبرت، ورغم مكوثي في تونس سنوات، فإنني بقيت أرى الأشياء والآخرين مِن حولي من منظور شخص غريب دفعني للتفكير بشكل أكثر عمومية في الصفات المشتركة بين الناس، ورغم أن نشأتي الأولى في ليبيا قد مكنتني من معرفة أنواع كثيرة من البشر؛ لما كانت تحويه من جنسيات مختلفة ومشرقية "خاصةً"، قد نزحوا إليها، "فلسطينيون وعراقيون وسوريون… والقائمة تطول"- فإنني أيضاً لم أشعر بأنني جزء من أي من الثقافتين الليبية أو التونسية، لسبب واحد؛ ألا وهو أنني لم أنصهر تماماً مع التونسيين.

وفي الوقت ذاته، لم أستطع التنكُّر لهم لصالح ليبيا؛ فهي ليست بلادي في نهاية المطاف، لم أستطع الاستمرار في تفضيلها حتى وإن أجبت أولئك الفضوليين في طفولتي كلما بادروني السؤال "مَن تحبين أكثر: ليبيا أم تونس؟"، فأجيب دون تردُّد: "طبعاً ليبيا"!

لذلك، قد قررت أن أعتبر تونس محطتي الثانية للانتظار.. قررت أنني لن أتزوج رجلاً ينتمي إلى كلا البلدين؛ كي لا أضطر بسببه إلى مواصلة البقاء في إحدى تلك المحطات. وذلك ما حدث بالفعل حينما تزوجت فلسطينياً شاركني قصور انتمائي بهويته المقسمة بعدة أقطار عربية، من قطر حتى العراق فسوريا، متمثلاً قول الشاعر: "الشام أهلي والهوى بغداد".

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ريحان غضباني
رسّامة تونسية
رسّامة تونسية
تحميل المزيد