أنا الابنة الوحيدة لرجل قارب الأربعين، وهو يعيش في الخارج حياته على الطريقة الغربية بالطول والعرض، ثم أخذت حياته منحى مختلفاً إثر حادث تعرّض له، واتجه إلى التدين.
في بداية هذه الطريق الجديدة وُلدت أنا، ومع تعمقه فيها ترعرعت، حتى بلغت (بالمعنى الشرعي للكلمة)، وعلى عكس أغلب الفتيات كان أبي مَن اهتمّ عن قرب بهذه المرحلة من حياتي، فواصل كما في صغري التكلف باقتناء كافة قطع ثيابي، إضافة للوازم الدورة أو الحيض، كما يحب هو أن يستعمل المصطلح القرآني المتكرر في الكتاب الذي يتلوه أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في خمس صلوات على الأقل، كل يوم.
جابه أبي بحزم محاولة أمي جعلي آكل خفية عنه في رمضان أيام دورتي، يتأكد أنني آخذ وجباتي كاملة وبانتظام، يشتري لي الدواء ويقف على تناولي له إن بدت عليَّ أية أوجاع، كما صار في السنوات الأخيرة يحرص على أن يكون أكلي خاصاً في هذه الفترة بعد أن صرت أعاني بين الحين والآخر نوبات فقر الدم.
في فترة بلوغي الأولى كنت أتحرج حين يسألني أبي عن شيء بهذا الخصوص، فأرد متمتمة بإيماء، يزجرني قائلاً: "تكلمي بوضوح.. تَعَقَنتِ!" الآن وأنا على أبواب التاسعة والعشرين لا أحد غير أبي أذهب إليه؛ ليبحث لي في مكتبته الدينية عما أحتاجه من تفاصيل أحكام هذه الفترة، وبحكم أنه يتأخر في النوم بعد أمي يكون هو مَن أطلب منه ألا يوقظني للفجر لأني حائض، وفي رمضان حين أكون أنا مفطرة وهم صائم يصير هذا موضوع نُكتتنا.
وأنا أفكر بكل هذه التفاصيل التي كانت تبدو لي حتى وقت قريب عادية وتلقائية، انتبهت إلى أي مأساة تعيشها جلّ إناث مجتمعنا وهنّ يقضين أسبوعاً في كل شهر من حياتهن وهن يتصرفن كمن يتستر على جريمة، يتهربن وهنّ في أقصى حالات الوجع؛ لكي لا يسأَلن عن السبب؛ لأن البوح به "عيب"، ومنهن من تضطر وهي في حال مزرية لتلبية طلبات هذا وحاجات ذاك ولا تملك أن تقول لأحدهم: دعني وشأني أنا أتألم، تفطر في رمضان وكأنها تسرق وترد دينها لاحقاً وهي تتوارى، هذا دون الحديث عن مراعاة الجانب النفسي لما تمر به بعضهن من نوبات اكتئاب أو توتر أو عصبية لا يتفهمها أو يرحمها فيها أحد.
أعتقد أن من بين الكثير الذي أنا ممتنة لأبي من أجله، تصرفه الطبيعي حيال هذا الأمر، الذي منحني هذا التصالح مع ما هيّأ الله له جسدي من دور، وانسجامي مع كل مرحلة أمر بها، خاصة وحولي هذا العدد المهول من النساء والفتيات اللواتي جعلهن ضغط المجتمع يمقتن هذه الفترة المقدسة من دورة حياتهن، وأنا أقول المقدسة؛ لأن الحيض هو ما يميز ويعلن عن هذا الجسد الذي أودع الله فيه سر الخلق وعظّمه به، أمّا إن شئنا أن نرى بعده الآخر، فيمكننا القول إنه احتجاج بويضة فقدت أمل أن تصير جنيناً.. تهاطل رحم لم يكتب له أن يحتضن ثمرة الوجود.. وانتحاب بالدم لكيان أنثى أضاعت أحد احتمالات أمومتها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.