(1)
ركبت أول تاكسي ظهر أمامي ليقلّني إلى وسط البلد، لم أدقّق مثل عادتي في نظافته وحداثته وهيئة سائقه، وحتى لم أخبره عن وِجهتي، كل ما أردته في هذه اللحظة هو أن ألحق بموعد عرض فيلم "زهرة الصبار" بسينما زاوية، صوت أم كلثوم يملأ السيارة في الداخل: وصفوا لي الصبر.. لقيته خيال وكلام… يتداخل معه صوت السائق: على فين؟
– وسط البلد!
تواصل "سومة" بدلال: يا دوب يا دوب ينقال…
الهواء يابس اليوم حتى إن لافتات الانتخابات الرئاسية لا تموج كما ألفناها، ما دُمنا على مشارف الربيع فلماذا نبتة الصبار هذه ذابلة؟ وما الذي يفعله هذا الصبي الذي يقف بجوارها؛ خلف الساعة الكبيرة في الميدان؟ يرصّ بضعة برطمانات زجاجية فوق طاولة خشبية صغيرة، فيما يمسك بسكين كبيرة يشق بها ورقة صبار كبيرة، يقطع الحواف المسنّنة بحرص شديد وسرعة في نفس الوقت، ثم يرفع اللحاء بداخله ويضعه في البرطمان، يخطر في بالي الآن شجرة الصبار الصغيرة والنادرة التي زرعها أبي يوماً في حديقة منزلنا، كانت من نوع صباريات الغابات التي تنمو بعيداً عن الصحراء، كانت صبارة مدلّلة جداً؛ نسقيها مع بداية كل نهار؛ كي تظل رطبة وتتفتح زهورها الحمراء، ذلك قبل أن يقتلعها أبي فجأة ويزرع مكانها شجرة المسك الليلي. قالت صديقتي حينذاك: إن هذا أفضل شيء فعله أبي؛ لأنه -برأيها- المسك الليلي يُحسن المزاج، أما الصبار فهو حسب فلسفة "فينغ شوي" يجلب الحظّ السيئ، أدهشني انفعالها وهي تتحدث كأنها من عائلة مُعادية للصبار وفصائله، فلم أشأ أمام حماسها الزائد أن أخبرها أننا في هذا البلد "كلنا صبار".
ما زال صوت أم كلثوم يشدو مترنّماً كأنه أمر محسوم:
ما أقدرتش أصبر يوم على بُعده ** ده الصبر عايز.. عايز صبر لوحده
(2)
مقهى الرصيف أمام سينما زاوية، هذه السينما المتنفس لأفلام بديلة عن التجارية السائدة، تجمّع أغلب رواد المقهى أمام شاشة كبيرة لمشاهدة المباراة الودية بين مصر واليونان، ومناقشة عصبية وصاخبة بسبب التشكيل الذي اختاره هيكتور كوبر، المدير الفني للمنتخب الوطني، ووضع فيه محمد صلاح على دكّة البدلاء.
ولأنني بالطبع لا أفهم في التشكيل أو في لعبة كرة القدم من الأساس، فضّلت أن أجلس بعيداً على طرف المقهى أحتسي كوباً من الشاي الساخن في هذا اليوم الملتهب بهوائه اليابس كَشَوكِ الصبار، فإذا بمغنّ شاب يعزف على عوده ويغنّي موال الصبر لشفيق جلال:
"أنا بعلم الصبر يصبر على حبيب جارنا
وبقول يا صبر صبرك حتى ييجي في يوم جارنا
قال يا خوخ خانونا الحبايب وإحنا لم خُنا
قال يا نخل إخلي مكان واسمع ما كان بينا".
مدهشة خفة هذه الأشياء التي تُفضي إلى موال تغنّى به السابقون قبل أن يولد هذا المغنّي بسنوات، ومن بين كل أغاني الصبر أسمع هذا تحديداً، وأتذكر أن شفيق جلال نفسه مَنْ قال في موال آخر وهو يلوّن صوته بنبرة من الشجن والحزن والحسرة: "صبرت ع الصبر ما صبرش معايا الصبر"، لا يبكيني هذا الموال أو ذاك، كما يفعل فؤاد حداد في المسحراتي: "أنا طول حياتى ضنا يا طول حياتك أم يا مصر يا معلماني الصبر والخضرة".
(3)
تُنبئني الوهلة الأولى لمباشرتي في مشاهدة فيلم "زهرة الصبار" أن أمشي مع أحداثه على مهل، حتى لا أقع في هواجس وتأويلات ملتبسة، كما أنه يجب عليَّ أن أستمتع بتجربة جديدة، وإن خاتلتني طريقته السردية الأشبه بقطع من الموزاييك تراصّت متقاطعة مع الحكاية، بناء تجريبي للسيناريو الذي اختار الصبار موضوعاً يتمحور حوله، ربما مثلما قالت مؤلفته ومخرجته هالة القوصي؛ لأنه من النباتات التي تتحمّل العطش لفترات طويلة، وربما لأنه شائك من الخارج وليّن من الداخل، مثل شخصياته الحائرة التي تصارع الحياة في دهاليز مدينة مشوّشة، تبدو من الخارج صلبة وراسخة؛ لكنها بالداخل مرهفة ورقيقة وأسيرة عذاباتها القديمة: عايدة الممثلة الشابة تشبه نبتة الصبار التي تحملها معها في تعرّجات المدينة، تعافر هذه الفتاة الثلاثينية أملاً في مصادفة تحقق لها في أحسن الحالات نوعاً من الاستبشار، كانت صغيرة حين ضغطوا عليها كي تضحك لكاميرا التصوير الفوتوغرافي، هي الآن كبرت ولن يجبرها أحد على الافتعال مرة أخرى، صامدة هي عايدة مع سميحة؛ المرأة السبعينية البرجوازية جارتها التي تطرد معها من سكنهما فوق سطوح إحدى عمارات وسط البلد، ويساعدهما جارهما ياسين الملاك الحارس والطالب الذي لم يكمل دراسة الحقوق، وباسم صديق الفنان المنزوي صديق عايدة وكذلك أمّها التي استعادتها بعد علاقة مضطربة، فيما اضطربت علاقتها بالكاتب الشاب الذي اتسم بسَمْت ونمطية الكُتاب التقليديين، وبمراد الفنان الذي يرثي القاهرة مدينته القديمة التي عاش فيها "يومين حلوين" ويخشى هذه المدينة الرمادية الجديدة: "هموت لوحدي في الخرابة دي!".
كلها شخصيات مأزومة وسط جحيم المتناقضات والتغيرات، وبصرف النظر عن التقييم الفني للفيلم الذي جنحت مخرجته نحو اتجاهات التجريب، حتى إنها بالغت في تقديم لوحات حرة تتماسّ مع الحكاية، وبدت كأنها تشرح المشروح؛ إضافة إلى أداء الممثلين الذي جاء متفاوتاً بشكل ملحوظ، بل أداء الممثل الواحد اعتراه تشوّش أيضاً؛ إلا أن غواية الفيلم كانت المدينة التي لا تنام.. مدينة الصبار.. المدينة القاهرة، المعادل لمصر كلها، كما جاء في قصيدة أحمد فؤاد نجم "كلمتين يا مصر" التي استعان الفيلم بمقطع منها:
شقشقت والنور بشاير
زهرة الصبار يا سلمى
يا نسيم الشوق يا طاير
خُد لمصر الصبح كلمة
(4)
كلمة المخرج محمد خان لي قبل رحيله بأسابيع قليلة، حين زُرته في بيته بحي المعادي جنوب القاهرة: "لم أعد أخرج كثيراً، لا أتحمل هذه الشوارع"، ثم رأيته يتأمل دخان سجائره في حيّزه الجغرافي الخاص بالبيت، أو ما سمّاه بصومعته الهادئة، كان يتطلع خارج نافذته المفتوحة على البراح، وتحيطه كتب مرصوصة على أرفف مرتبة، وشرائط وسيديهات أفلام منظمة بفهرس خاص، وشاشة كبيرة تتوسط المكان؛ حيث كان يمارس طقسه اليومي في التقاط التفاصيل ومراقبة العالم من زاويته الخاصة على طريقة أن تعيش لتراقب وتحكي، ظلَّ لآخر أيامه يشاهد فيلمين يومياً ويقرأ ما تيسّر من الروايات وكتب السيّر الذاتية لمخرجين أجانب، وكان يتابع الأخبار ثم يكتب مقالاته وبعض الآراء عبر صفحته على "فيسبوك".
كان أمراً مثيراً أن المخرج الذي وثّق شوارع القاهرة، وفارس المدينة الذي حوّلنا كلنا إلى فوارس نشعر بالضياع أمام العمارات العالية، ونتأمل التناقضات الصارخة في مدينة الخيبات والهزائم، فضّل المكوث في بيته بدلاً من النزول إلى شوارع سكَنَتنا عبر أفلامه وحركت فينا الحس والذاكرة، كاميرا خان كما عيناه كانت حرة وطفولية وفيها مصر "تفر وترفرف"؛ وإن شاء القدر أن يكون فيلمه الأخير "قبل زحمة الصيف" خارج القاهرة؛ لكنه تفحص الزمن الجديد وجسّ نبضه من خلال طبقة اجتماعية معينة تكشف الحاضر المكسور، استثناء سبقه فيلمه "خرج ولم يعُد" مقدماً فيه الريف كنقيض للمدينة، نظيف، مليء بالخير، وشخوصه طيبون وأبرياء، أما المدينة فهي فقيرة، ملوثة وبائسة بأحوالها وشخوصها.
(5)
"كِشّ مَلِك"، قالها رجل خمسيني وهو يناول كفّه لرفيقه الذي شاركه لعبة الشطرنج على مقهى رصيف آخَر في حارة صغيرة متفرّعة من شارع شريف، لكن شريك اللعبة لا تُعجبه النتيجة، فيردّ عليه بصوت هادر، كما لو كان يقلّد أم كلثوم: "إنما للصبر حدود"، ولا يعاود اللعب، ثم يرتشف من قهوته ويصمت.
(6)
صوت صلاح جاهين:
يأسك وصبرك بين إيديك وانت حُر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
أنا دُقت مِن ده ومِن ده وعجبي لقيت
الصبر مُر وبرضه اليأس مُر.. عجبي
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.