جاء اليوم المنشود، وحدَّد الطبيب موعد الولادة؛ لأنني أنهيت شهري التاسع وبزيادة عشرة أيام، ذهبنا إلى المستشفى محمّلين بالشوكولاتة المزيّنة والقهوة وملابس المولودة الجديدة، وكلنا شوق للقاء طفلتنا الصغيرة.
كانت الولادة يوم السبت، العاشر من شهر رمضان، وبدأت رحلتي مع الطلْق واستمرت 13 ساعة. ثلاث عشرة ساعة شعرتُ فيها بتعب وألم يعادلان أشهر الحمل كاملة، اختبرت خلالها دوامة من المشاعر المختلفة مجتمعة: فضحكت وبكيت وحزنت وفرحت وتعبت وخفت. وفي لحظة الولادة تحوّلت كل هذه المشاعر لشعور قويّ بالعاطفة، عاطفة جياشة تملأ كياني، لكني لم أستطِع أن أميز هذه العاطفة واختلط القليل من شعور الحذر مع هذه السعادة.
انتقلت إلى غرفتي مع طفلتي، بوجود العائلة. وأمضيت يومَين رائعَين في المستشفى برعاية فائقة واهتمام مِن كل مَن حولي، وحرصهم الشديد على راحتي، حتى إنني لم أحظَ بالوقت الكافي لحمل طفلتي وكان الجميع يقولون لي: "ستملّينها غداً وستملّين حملها".
عُدنا إلى المنزل، صمّمت على الرجوع إلى بيتي رغم إصرار أمّي على أن أرافقها إلى بيت والدَيّ، فإنني كنت أكثر إصراراً وعدت إلى منزلي. رافقني زوجي في المنزل خلال الأيام الثلاثة الأولى وكان لي السند واليد المعاونة، ولكنني شعرت بشيءٍ غريبٍ داخلي، بدأت العاطفة بداخلي تتلاشى، وأخذ شعور الحذر يحتلّ مكانها، إلى أن وقعت تحت سيطرة شعورٍ غريب من الغربة والبُعد عن طفلتي وزوجي.
عاد زوجي إلى عمله وبقيت حبيسة المنزل، وحبيسة غيمة سوداء من الخوف في عقلي، إلى أن دخلت عليَّ أمي صباح أحد الأيام، ووجدتني أنظر في طفلتي نظرة بيضاء خالية من أي مشاعر، فحضنتني وبكيت دون توقف، لطالما كانت أمي تعترف بمشاعرنا ولا تنكر علينا حقنا بالشعور السيئ قبل الجيد؛ فأمسكت بوجهي بين يديها، وقالت: "لا تقلقي حبيبتي حب يوم واحد ليس مثل حب عشرين سنة، لا تخافي، فهذه هي البذرة التي عليك أن ترويها بحبك وحنانك لكي تعطيكِ ورداً جميل الرائحة، وتملأ حياتك بالأكسجين. اكتئاب بعد الولادة أمرٌ عادي يصيب معظم النساء، وأسهل طريقة للتخلص منه، هي بالاعتراف بوجوده، وطلب المساعدة من الأشخاص من حولنا ومن الذين يحبوننا".
هنا أحسست بصفعة تنزل على وجهي "كآبة ما بعد الحمل والولادة" لقد قرأت عنها، لكني ظننت أنها لن تصيبني، فأنا امرأة قوية مستقلة ولست عاطفية، بل أنا امرأة عقلانية وواقعية.
الاعتراف بمشاعري كان الخطوة الأولى لتحرير عقلي، الآن بعد أن عرفت مصدر السحابة التي ملأت قلبي، بدأت السحابة تنقشع ثم بدأت أطلب من أمي ووالدة زوجي المساعدة، كنت أعبّر عن مشاعري للجميع بهدوء، وذهبت إلى طبيبي وتحدثت إليه عن التغييرات الجسدية، التي لم تختفِ مع الولادة كما توقعت. وكان جوابه بسيطاً، لكنه كان مقنعاً: "ما اكتسبته في تسعة أشهر لن يغادرك في أربعين يوماً". كل هذه الخطوات البسيطة ساعدتني لأرى النور، بدأت أستمتع بطفلتي وأحبها، بدأت أرويها من حُبي وحناني وتعطيني أضعاف هذا الحب، فعلاً أصبحت هي أكسجين حياتي، وبدأت ألملم شتات نفسي؛ لأرتقي بنفسٍ جديدة مليئة بالحياة والعطاء.
السر في العطاء يكمُن في شيئين: تقبّل الذات، والاعتراف بمشاعرنا.
من موقع mumzworld
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.