استغرب صديق لي حين أخبرته أنني أفطرت "سوشي" قائلاً بدهشة " في حدا بفطر سمك ني" بينما تفاخر هو بالإفطار الفرنسي الرقيق "مُربى وكرواسون." بالنسبة لي لا استطيع التعامل مع هذا الأكل العاطفي صباحاً، أحتاج شيئا حاسماً مثل طعم قطع الزنجبيل المُخللة التي تصاحب وجبة السوشي اليابانية.
إن حكايتي مع الطعام الآسيوي عجيبة، فحين أكلت "السوشي" للمرة الأولى بصحبة أصدقاء في مطعم ياباني في نيويورك عام 2006، وضعت أول قطعة سوشي في فمي، وشعرت كأنني أكلت فاجعة، نظرت إليهما وعيناي مفتوحتين على وسعهما، وهما يأكلان بشكل عادي ويتابعان حديثاً عن أغاني فيروز والأشرطة القديمة بدل أغاني الديجتال، في حين أنني لا أستطيع أن أبلع، وأفكر.."يا ترى هل هناك مشكلة بالمطعم؟ فالأكل غير مطهو."
إضطررت لبلع القطعة الأولى بعد أن أخفضت نظري إلى قدمي، ثم فكرت إذا كان اصدقائي يأكلونه دون شكوى، هذا يعني أن الأمر طبيعي، وبدأت أبحث عن شيء صالح للأكل حولي دون أن انبس بكلمة، مبتلعة الصدمة كما ابتلعت قطعة السوشي. بعدها بعام سافرتُ إلى كوريا الجنوبية في إقامة أدبية تمتد إلى سبعة شهور، وكانت القوائم المتوفرة في مطعم الجامعة هي الأطباق الكورية التقليدية كذلك في المطاعم المحيطة، في أول طبق لي هناك تناولت وجبة "البلجوجي" وهي عبارة عن حساء اللحم مع أنواع من خضار لم أرَها سوى في كوريا، ولحسن الحظ، كان طبقاً لطيفاً يشبه الأكل الذي أعرفه. في اليوم التالي كانت هناك دعوة على العشاء للكُتاب المشاركين، واعتقدت أني سآكل شيئا شبيها لكني وجدت أخطبوطا كبيرا في قدر طعام مع خضار وأعشاب، كما وضعوا الموقد على طاولتنا، فمن المفترض أن نطيبه ونحن نتحدث عن الأدب، وكان بجانب الموقد مقص كي نقص أذرع الإخطبوط ونأكلها، وكنت في داخلي أناجي "يا مغيث أغثنا" فإذا لم تأكل ما قدموه، يعني أنك لا تُقدر الدعوة، فما كان مني سوى أن مضغت شيئا مطاطياً، وأنا أكتم أنفاسي. كان من الصعب أن أجد الخبز في محال البقالة، كذلك كانت وجبة الإفطار التقليدية هي "الكيمامب" أو أوراق الطحالب "seaweed" المحشوة وهي تشبه السوشي ولكن بمكونات مختلفة. كنت أشعر أن البيئة والطعام يؤثران على حياة الإنسان اليومية وطبيعته، فحين أكون في "مترو" أو حافلة أميز أن رائحة الناس هنا تختلف عن الشعوب الأخرى، ولم يكن الأمر سيئاً على الإطلاق بل مختلفاً.
كنت أقاوم التغيير حولي الذي كان شاسعاً عكس بلاد أخرى انسجمت معها بشكل أسرع، ولكن كوريا الجنوبية لها هويتها الضاربة في جذور عميقة فإما أن تنسجم معها أو لا تنسجم. حين كنت أذهب إلى مطعم الجامعة اختار أن آكل الرز "الستيكي" بالملعقة، فالقائمة تحتوي على حساء التوفو وهو الأسهل على اللائحة، وهناك مخ السمك، وأحشائه، وبالتأكيد الكيمتشي الشهير، وهو "مخلل الملفوف لكن على الطريقة الكورية." كنت دائما أنهي وجبتي وأنا جائعة، فأقرب مطعم ماكدونالدز يبعد عن الجامعة التي نقيم بها ساعتين بالحافلة، حاولت صناعة الخبز ولكن كان أمراً متعباً خاصة أن السكن الجامعي به مطبخاً مشتركاً واحداً، مفتاحه مع أستاذ أمريكي عصبي المزاج يعتقد أنه ورث هذا المطبخ أباً عن جد.
لم يمر سوى شهرين على مقاومتي لكل هذا الاختلاف لأجد نفسي فجأة استسلمت، فأحببت الطعام الكوري، بل بدأت أبحث عن كل الوجبات الجديدة و أجربها حتى الحلويات مثل كيكة الأرز، وأفطر الكيمباب، وأدمنت على "البندي توك" وهو نوع من الكريب الكوري مكون من عجينة مخبوزة بالبصل الأخضر وفواكه البحر. وهناك حساء الدجاج Samgyetang مكون من دجاجة محشية بالأرز وسط حساء بخضروات معينة، وكان المفضل لدي، كما تعلمت أن آكل بـ"الشوب ستيك" حتى أنني حين عدت إلى بلدي أخذت معي جميع الأنواع؛ الخشبية والمعدنية والبلاستيكية وبقيت آكل بها لفترات طويلة الوجبات الفلسطينية، وأعلّم من حولي.
بوقت ما، أصبح الطعام الكوري صديقي، ولا تتفاجأ إذا علمت أنه أصبح من عاداتي حين أسافر إلى أي بلد أن أبحث عن المطاعم الكورية وآكل بها، في مصر وأوروبا وأمريكا، وكان أكثر ما أفتقده، وانتظره بشغف هي المُقبلات وهي أساسية في الوجبة الكورية؛ عبارة عن صحون صغيرة يضعون بها أنواع مختلفة وتقليدية من الأطعمة الكورية، وهناك مطاعم بكوريا كانت لا تقدم سواها وتحوي أسماك متخمرة، ومخللات وأعشاب، وخضروات بالبهار الكوري. وكان المختلف في المطاعم الكورية بالخارج أنك لا يجب أن تخلع حذاءك عند الباب وتجلس على الأرض، كما المطاعم الكورية التقليدية.
الآن لم يعد الأمر يقتصر عندي على الطعام الكوري بل أحب كل الطعام الآسيوي كالفيتنامي والصيني والهندي والتايلندي والمنغولي ليس لأنه منخفض الثمن فقط بل لكونه صحي أيضاً، كما أحب أن أجرب كثيرا من المذاقات والبهارات، ولم أنجح في بيتي سوى بطبخ الأكل الهندي، فحين جربت أن أصنع السوشي يئست سريعاً وقلبت المكونات إلى وجبة "صيادية" فلسطينية. لم أفقه سوى متأخراً أننا حين نعيش في ثقافات مختلفة، تكون الحواجز الحقيقة داخلنا وتتمثل في رفض التخلي عما تعودنا عليه، والخوف من تجربة كل جديد.
وهو السبب ذاته الذي كان يُصعب علي تعلم اللغة الكورية التي درستها لأكثر من 80 ساعة، فلم أتقبل فكرة تعلم لغة جديدة، وتمسكت أن أتحدث بالعربية وأحسن انجليزيتي في حواراتي مع بقية الكُتاب. وهذا العناد غير المقصود ولكنه تلقائي، سبب لي بعض الأزمات، فجميع إشارات "المترو" أو الحافلات لأسماء المناطق مكتوبة بالكورية، وكنت أتوه أحيانا بسبب ذلك، فمن النادر أيضا أن أجد من يتحدث الانجليزية لينقذني، وهو الأمر ذاته الذي واجهته في فرنسا بالبداية. أتذكر أنني كنت أقضي وقتاً طويلاً في منطقة بكوريا الجنوبية اسمها "ايتوان" في مدينة سيؤول، متعددة الثقافات بها المطاعم العربية والأمريكية، كما تسمع بها اللغات المختلفة وتشاهد كثيرا من الجنود الأمريكيين بسبب وجود واحدة من أكبر قواعد أمريكا العسكرية هناك، وكنت أبحث عما افتقده من التواصل بلغتي وثقافتي وطعامي، ولكن بعد ذلك أحببت السفر إلى القرى الكورية البعيدة، والمعابد البوذية القديمة.
كانت العيون الواسعة تشكل فضولا كبيرا لدى الكوريين، فيكون السؤال الأول عن الجنسية، أما أنا فكان السفر إلى الطبيعية ما اهتم به، فهذه البلاد تحتل بها الأماكن الخضراء أكثر من نصف مساحة البلاد، لكنني حين وقفت على المنطقة الحدودية الشهيرة بين الكوريتين وهي منطقة منزوعة السلاح، وتحتها أطول الأنفاق الذي استخدمه الجنود خلال الحرب الشهيرة بين الكوريتين عام 1950 واستمرت لثلاثة أعوام، رأيت كوريا مختلفة، كوريا الشمالية، وكانت رمادية بجبال صخرية، فقد كان الفقر دافعاً لاستخدام حطب الأشجار للتدفئة، في درجات حرارة تنخفض بشكل مهول خلال الشتاء، ولكن التقدم الصناعي والتكنولوجي في كوريا الجنوبية وثراء البلد لم يجعلها بحاجة إلى قطع الأشجار. إلا أن ذلك لم يكن كافيا للسعادة، فهناك على الدوام شيئا ما مكسوراً داخل الكوريين الجنوبيين حين يتحدثون عن كوريا الأخرى، وكأن نصف القلب مفقود.
ربما أعود يوماً ما إلى كوريا الجنوبية، لكن هذه المرة وأنا أدرك مقدار حبي لهذا البلد، وتقديري لاختلافها، ومذاق طعامها، فأعوض ما ضيعته، وربما أنا بحاجة الآن أن أقدر الكرواسون الفرنسي، والستيك غير الناضج، واندمج بثقافة جديدة بعد عام من غضب التغيير، فلا أقع بنفس خطأي في كوريا كما لا يعود ذاك الصديق يسخر من صباحات السوشي الياباني.
تم نشر هذه التدوينة في موقع vice
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.