متلازمة التطرف

المبالغة في كل المعاني يفقدها جوهرها الحقيقي، حتى الحب إذا بالغ فيه الإنسان أصبح نكداً على الإنسان في حياته، وفقد لذة الحب الحقيقي.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/27 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/27 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش

يثمر الدرس حين تخرج منه وقد تغيرت قناعاتك، أو اكتسبت قناعات جديدة، أو تغير شيئاً في سلوكك، درس اليوم لم يكنْ سهلاً، لقد رجع بنا لسنواتٍ عجاف أساء فيها الكثير من الذين حملوا الخطاب الديني إساءة بالغة ومنحوا الصورة المخالفة لما جاء به الإسلام وروحه، وربما انحرفوا في كثير منها عن مقصد الإسلام الأصلي.

وفي نقاش جميلٍ مع بعض الأصدقاء قادني الحديث عن أحد أساتذتنا الذين وظّفوا درساً لا علاقة له بالدين حوّله لدرس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة فجّةٍ، وفي خضم هذه الجلسة قلت التالي: المبالغة في كل شيء تطرّف، فالفكرة الرائعة حين يكثر الحديث تفقد هيبتها وروحها، وهذا ما حدث في كثيرٍ من المفاهيم والقناعات، وما زلْتُ أذكر أنني دخلت في نقاشٍ مع أحد الشباب من الذين يهتمون بالمناسبات الدينية، قلت له: أما ترى أن هذه المناسبة بولِغ في الاحتفال بها حتى فقدتْ روحها، فإذا به يستشيط غضباً، وبدأ يتكلم عن الناس قائلاً: أما ترى أن الناس قد انحرفوا عن جادة الصواب، فهذا قليل قياساً مع فساد خُلق الناس وتركهم للدين كما يدّعي، لا أدري من أعطاه صلاحية أن يكون مبعوث العناية الإلهية؛ ليحكم على الناس لعدم حضورهم لفعالياته الدينية، وكأن ميزان الإيمان بكثرة حضور المجالس الدينية، قلت له: يا سيدي حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الأولين والآخرين، يروي عنه الصحابة أنه كان يتخولنا في الموعظة خشية السآمة، النبي على جلالة قدره يخشى على أصحابه أن يملّوا من حديثه، وربما هذا الملل يجعلهم يزهدون في أصل الدعوة.

والبعض يتساءل: هل في العبادة تطرف؟
أجل سيدي، التطرف في العبادة غير مرغوب به، ولا ينسجم مع روح الإسلام، فهذه القصة التي يرويها البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها [أي: عدُّوها قليلة]، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً [أي: دائماً دون انقطاع]، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر [أي: أواصل الصيام يوماً بعد يوم]، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي.

أجل المبالغة في العبادة أمر يرفضه الإسلام ولا يدعو إليه، بل دعا إلى إنكار الرهبانية وجعلها من البدع التي لم يوجبها الدين على أتباعه.

المبالغة في كل المعاني يفقدها جوهرها الحقيقي، حتى الحب إذا بالغ فيه الإنسان أصبح نكداً على الإنسان في حياته، وفقد لذة الحب الحقيقي.

وقد أعجبني ما كتبه بعض المتنورين عن المبالغة، وهذا كلامه منقول بتصرُّف:

[المبالغة كريهة حتى في الحُبّ؛ لهذا تجد الأغاني الأجنبية، معظمها خالٍ من المغالاة، فالمجتمع الغربي لا يشجع على العشق، بمعناه المرضي الذي مثله مجنون ليلى، هذا النوع المرضي من العشق كان مرتبطاً بعقلية قديمة انتهت، المهم هو العلاقة السليمة بين الجنسين، والحب هو العناية الشاقة بهذه العلاقة، السعي الدائم نحو خلق ذكرياتٍ جميلة من خلال الاقتصاد والسفر والمعاملة الحسنة، اقتسام عمل المنزل والاحترام المتبادل، انتهى ذلك الحب المبالغ فيه، وانتهت أدبياته الكريهة، منذ العصر الفيكتوري، فالمطلوب ليس أن تقتلَ نفسك، بل المطلوب أن تعيش جيداً، أن تحب الحياة على نحو سليم.

أصبح هناك وعيٌ صحي في كل شيء، حتى الحب هو جزءٌ من اهتمامنا بصحتنا، كذلك الدينُ انتهت تلك المبالغات الغنوصية، وكذلك المبالغات في تمجيد الرموز يقول الحلاج مثلاً: (حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصاف بأوصافه)، هذه مبالغاتٌ غير مفيدة، فالعاشق يحاول تقليد معشوقه في كل شيء يتنازل عن شخصيته المستقلة ويصبح مسخاً ذائباً في شخص المحبوب.
لو تفكرنا قليلاً معاً؟
إذا كان الإنسان المعشوق يتضايق من المبالغة المرضية، ويتم عرض العاشق على الطبيب وتوقيعه على أوراق قانونية تأمره بالابتعاد عن المعشوق المنزعج بالتأكيد سينزعج فلا أحد يطمئن لعشق المجانين.
فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟ ألن يتضايق من عشق كهذا مرضيّ كريه].

يذكر لي أحد الزملاء أنه تربّى في أسرة دربته على الفلسفة والتفكير مبكراً، يعود الفضل لأبيه الشيوعي في هذا، فلهذا أصبح لا يحب مبالغات الصوفية ولا شطحات السلفية.

وما داعش مثلاً أليس مجرد مبالغة؟ وما هو التشيعُ مثلاً إلا مجرد مبالغة حول أشخاص مساكين لا ذنب لهم في هذه المبالغات ودفع ثمنها شباب وتفككت مجتمعات وهدمت مدن بأكملها.

لنودع هذه الرحلة التي تحدثنا فيها عن التطرف والمبالغة والمغالاة بما يلي:
1- إن المبالغة والمغالاة في كل شيء تنتج لنا تطرفاً، سواء أكانت في العبادة أو الحب أو العمل.
2- العقل نعمة غفل عنها الكثير، فما أجمل أن نستخدمه ونجعله أداةً للتوازن في الحياة.
3- الأشياء الجميلة حين يكثر الحديث عنها تفقد قيمتها حتى لو كانت أشياء مقدّسة، فلهذا أراد الإسلام أن نتوازن بين الحياة الدنيا والآخرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد