"لقد قرأت الكتاب وهاكم رأيي فيه أعرضه صراحة دون أن أفرضه على أحد. إنه كريه ووضيع يثير القرف والاشمئزاز، ولم أسمع أو أشاهد هذا القدر من الإباحية كما أقرأها هنا لدى بودلير. فهذه الصفحات هي بمثابة عرض مماثل للشياطين والأبالسة والقطط والبراغيث. إن هذا الكتاب هو مستشفى مشرع الأبواب لجميع عفونات القلب، وإذا كنا نفهم أن مخيلة شاعر في العشرين من عمره قد تجره إلى مثل هذه الموضوعات فليس هناك ما يبرر لرجل قد تجاوز سن الثلاثين أن يبيح كتابه لأمثال هذه المسوخ".
كتابنا لهذا اليوم هو ديوان "أزهار الشر" للشاعر الفرنسي شارل بودلير، صدر لأول مرة عام 1857، وضم ستة أقسام حسب موضوعاتها، السأم والمثالية، لوحات باريسية، الخمر، أزهار الشر، التمرد، الموت، فخلفت طبعته الأولى جدلا كبيرا أوصل بودلير إلى ردهات المحاكم، فتم إصدار طبعات "معدلة" أخرى سنوات 1861، 1866 و1868 (طبعة 1868 صدرت عاما واحدا بعد وفاة شارل بودلير).
الكلمات أعلاه ليست لي بطبيعة الحال، بل هي ترجمة لما قاله غوستاف غوردان مدير جريدة لوفيغارو بعد صدور ديوان بودلير، والذي خصص سلسلة من المقالات النقدية اللاذعة لما كتبه الشاعر الفرنسي، مضيفا: "عندما يتحدث المرء عن السيد شارل بودلير، فإنه يتحدث عن كابوس لأن قراءة "أزهار الشر"، التي أتى بها تترك في النفوس كآبة عميقة وحزناً رهيباً. إن هذه الكومة من الجثث المعروضة ببرودة أعصاب وهذه الأقذار المنبوشة بيدين مشمرتين يجب أن تحبس حتى تتعفن في درج ملعون، وأقصد هنا بالدرج ذلك القبو الصغير التابع للمكتبة الوطنية التي دفن بها الكثير من أمثال هذه الكتب التي يجب منعها من التداول بن الناس.
إنها تحريض صريح على الفساد والانحلال الخلقي والرذيلة والابتعاد عن مكارم الأخلاق ومقاصد الدين"، ولا يمكن فصل الظرفية التي كتبت فيها هذه الكلمات عن السياق السياسي آنذاك، فترة حكم نابليون الثالث الذي قرب منه الممثلين والمغنيات، وأبعد عنه المثقفين مفضلا نهج سياسة "إننا لا نستطيع إبادتهم (أي المثقفين والشعراء)، لكننا نستطيع التضييق عليهم سعيا إلى درء الخطر الذي يمثلونه على المجتمع". (ألا يذكركم هذا بجزء معين تعرفونه جيدا من الكرة الأرضية؟).
القارئ لأزهار الشر سيكتشف أن هذا الشاعر قد سبق عصره بالفعل، بودلير تجاوز معاني الجمال والقبح، ليقرن بين الخير والشر، مع طابع سوداوي لا تغفله العين، ويزول التعجب من الأمر عندما تميز تأثرا واضحا لبودلير بشاعر أمريكا الأول في القرن التاسع عشر والذي اقترن اسمه بما يمكن اعتباره بداية إرهاصات أدب الرعب الحديث: إدجار آلان بو.
كان يوم المحاكمة مشهودا في فرنسا، تم اقتياد بودلير كما لو كان ينتظر حكما قاسيا بالإعدام، بعد اتهامه بالإخلال بالآداب العامة، القاعة مليئة بالمتعاطفين الذين يرددون أبيات شعره.
وعندما نهض محامي بودلير لبدء مرافعته، قال: "أيها السادة إذا كان بودلير يصف الرذيلة فإنه يهدف من وراء ذلك إلى محاربتها وإدانتها فهو يقول: الحماقة والخطأ والخطيئة والبخل تحتل أفكارنا وتشغل أجسادنا، وعذابات الضمير الحبيبة نغذيها كما يغذي قملهم الشحاذون، وبالتالي فإن نواياه تبقى صادقة وسليمة".
لم يسجن بودلير، لكنه دفع غرامة 300 فرنك فرنسي، وتم حذف القصائد ذات الرقم (20 و30 و39 و80 و81 و87) من مجموعته، ولم تتم "تبرئته" رسميا إلا عام 1949 كما أسلفت الذكر.
سمعت بـ "أزهار الشر" لأول مرة قبل عشر سنوات أو أكثر بقليل، يومها قرأت بعض المقاطع ووجدت صعوبة كبيرة في فهمها، مرت السنوات واقتنيت الديوان في طبعته الفرنسية طبعا، لتحفظي على قراءة الشعر المترجم إلا في حالات معينة، ورافقني الديوان قبل عامين الأمر تزامن مع انشغالي بمشروع روايتي الجديدة، فقد كان من الطبيعي أن يتداخل هذا مع ذاك، وتجري على لسان الراوي المجهول وحبيبته جيهان، أبطال روايتي، أبيات من شعر بودلير في أزهار الشر، في لقاء حميمي هادئ جمعهما في منزل الشابة العشرينية، لحظات قليلة قبل "اندلاع العاصفة" التي..
لا.. لن أكمل، فهذه حكاية أخرى!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.