عندما كنت صغيراً، أتذكر أن أمي تلقت رسالة على جهاز الرد الآلي الخاص بها من إحدى جيراننا وهي السيدة هارتمان، التي كنا نحب أنا وإخوتي أن نطلق عليها السيدة فرتمان. وتبين أن السيدة فرتمان لم تكن سعيدة بموقف والدتي التي لم ترد على آخر رسالتين منها.
قالت فارتمان، بصوت أشبه بالصياح الممزوج بالغضب، "حسناً، لقد فهمت رسالتك. إذا كنت لا ترغبين في التحدث إلي بعد الآن، إذا فليكن لك ذلك".
أُغلق الخط، وانتهت علاقة الصداقة.
وعندما سألت أمي، التي كانت تعكف على تربية 3 أطفال أشقياء للغاية بما في ذلك أنا، عما إذا كانت تهتم بمسألة فقدان أحد أصدقائها، تنهدت تنهيدة يغلب عليها التعب وأجابتني "ليس حقاً، فأنا مشغولة للغاية وليس لدي وقت لمعاودة الاتصال بها. وإذا لم تتفهم هي ذلك، إذاً فماذا عساي أن أفعل؟ ربما كان عليها فهم ذلك من تلقاء نفسها".
بعد مرور 20 عاماً، تغيرت الكثير من الأشياء. فمنصة فيسبوك تسمح للجميع بالتواصل مع بعضهم البعض عبر الإنترنت عدة مرات، مما يصرف انتباهنا عن لذة الاستمتاع بالكتب. وتنطلق التغريدات الصغيرة ذهاباً وإياباً في جميع أنحاء العالم بمعدل يصعب على أي شخص مواكبته، إلا إذا كنت آن ماري سلوتر. لدينا صفحات شخصية منفصلة على الإنترنت بعضها للعمل والأخرى للمواعدة، والتي نستخدمها أثناء تواجدنا في العمل وأحياناً عندما نكون في موعد غرامي، إذا جرى الأمر بشكل سيئ. هُجرت أجهزة الرد على المكالمات المنزلية بشكل كبير عندما انتشر استخدام الهواتف المحمولة التي جعلتنا على تواصل دائم مع بعضنا البعض على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.
وأخيراً، أصبح هناك الكثيرون، في الوقت الحالي وأكثر من أي وقت مضى، ممن تشبه حالتهم حالة السيدة فارتمان.
أتذكر السيدة فارتمان في كل مرة يخبرني فيها أحدهم "أنت لم ترد على اتصالي" أو "أنت لم ترد على رسالتي التي أرسلتها إليك عبر فيسبوك" أو "أنت لم تعد تغريد تغريدتي" أو "أنت قلت إنك ستكون موجوداً على سكايب" أو "ألم تقرأ مدونتي؟". هناك الكثير من الأمور التي تجري في آنٍ واحد، ولا أستطع التركيز عليها جميعاً. وهذه لم تكن طبيعتي، فقد اعتدت على أن أكون شديد التركيز. لدرجة دفعت أحد المدرسين ممن كانوا يدرسونني في المدرسة الابتدائية أن يناديني "بالسيد المُرَكّز" Mr. focused. ولكن الآن لم يعد هناك مكان لذلك التركيز كي يُظهر نفسه في هذا العصر الرقمي الجديد، حيث التواصل بشكل مستمر والمشاعر التي تُجرح بسهولة.
حاولت أن أكون صادقاً مع الآخرين فيما يتعلق بأسلوب التواصل الخاص بي عبر الإنترنت، ولكن الناس في ذلك العالم الافتراضي لا يتجاوبون بشكل جيد مع الحقائق. فيجب عليك إما أن تتوقف بشكل كلي عن التحدث إليهم جميعاً كما لو كانوا غير موجودين أو أن تختلق شيئاً سخيفاً للغاية لإرضائهم. ولنأخذ، على سبيل المثال، هذه المحادثة التي وقعت مؤخراً بيني وبين أحد معارفي.
صديقي عبر فيسبوك " أين كنت؟ لقد حاولت الاتصال بك ولم تجب".
أنا: "آسف، لم أكن في حالة مزاجية تسمح لي بالرد".
صديقي عبر فيسبوك "ولم لا؟"
أنا: "كنت في حاجة لبعض الوقت"
صديقي عبر فيسبوك "☹"
وإلى هنا وصل حديثنا إلى نهايته وانتهت تلك الصداقة التي كانت عبر فيسبوك.
ما كان علي قوله هو أشياء مثل "لم أستطع، لقد كنت أختنق جراء تناولي قطعة جبن فاسدة" أو "لم يكن بمقدوري الرد، أصيب ببغائي بأزمة قلبية أدت إلى وفاته". (ذلك التبرير الأخير عبارة عن كذبة مزدوجة، إذ أنني لم أمتلك ببغاءً). وبدلاً من ذلك، سلكت "الطريق الأصعب" وهو طريق الصدق. ولكن إلى أين أوصلني هذا المسار؟
ليست الصداقات وحدها هي العلاقات التي تأثرت سلبياً بمنصات التواصل الاجتماعي. إذ ذهبت مؤخراً إلى موعد مع شريكٍ تعرفت عليه منذ عدة أشهر، وقد بدأ يختبرني، ليس عن التاريخ أو السياسة وإنما عن مدونته. انتهت المحادثة عندما اعترفت له بأنني في الواقع لم أقرأ مدونته، تسبب كشفي عن هذا الأمر في احمرار وجهه ودهشته، وهو ذلك التعبير الذي كان سيظهر على وجهه إذا ما لكمته في أنفه أو تخطيت حدود اللياقة مع جدته. وليس هناك داعٍ لذكر أن العلاقة وصلت إلى نهايتها بشكل سريع.
ثم هناك ما يسمى بظاهرة تبادل الإعجاب. حين يُعجب الناس بشيء خاص بي على فيسبوك، أجد هذا الأمر لطيفاً، أو اعتدت على أن أجده لطيفاً، إلى أن وصلت لتلك اللحظة التي اكتشفت فيها أن هناك قاعدة غير معلنة تنص على أنه إذا ما أُعجب شخص ما بشيء يخصك، فعليك مبادلته ذلك الإعجاب في الأشياء التي تخصه حتى وإن كنت غير مُعجب بها على الإطلاق. الأمر أشبه بأن يأتي شخص إلى منزلك ويخبرك أن لديك ستائر لطيفة. فعليه ألا يتوقع منك الذهاب إلى منزله على الفور وإخباره بأن لديه ستائر جميلة أيضاً، خاصة عندما تكون ستائر منزله قبيحة. فالستائر القبيحة لا تستحق المجاملات أيها الناس!
أعرف أن الناس توقفت عن متابعتي على موقع تويتر لأنني لا أُبادلهم المتابعة. قطع أشخاص على موقع LinkedIn علاقتهم بي في هذا العالم الافتراضي لأني لم أُثنِ على مؤهلاتهم المهنية التي يقولون أنهم يمتلكونها. أعرف أن هناك من ألغوا صداقتهم معي على فيسبوك بسبب المدة الطويلة التي مرت دون الرد على رسائلهم أو عدم كتابتي لهم "عيد ميلاد سعيد". لقد فهمت الأمر. فهمته حقاً.
ولكنني لم أفهمه. حقاً. #notintheleastbit.
في عالم المنظمات غير الحكومية، نتعلم أن التواصل مع المتبرعين عبر الإنترنت يجب أن يتم كما لو كنا نجري محادثة حقيقية. وإذا قالوا لك شيئاً، فعليك أن تستجيب بالمثل. خلال المحادثة الاعتيادية، لا يمكنك الوقوف صامتاً عندما يتحدث شخص ما إليك مباشرةً. وإذا ما فعلت ذلك، فقد يعتقد الناس أنك أحمق أو مجنون. وعلى ما يبدو، فإن هذا الأمر يسري كذلك في العالم الافتراضي.
ولكنني هنا لأظهر إصراري على أن الأمر ليس كذلك! فالمحادثات الافتراضية لا تسير بنفس طريقة المحادثات الفعلية. ففي بعض الأحيان، تسير المحادثات بشكل أسرع، وتبطؤ وتيرتُها في أحيانٍ أخرى. وفي المحادثات الفردية، من المفترض ألا يتشتت انتباهنا، بينما تكون خياراتنا عبر الإنترنت بلا حدود. قد تقول لي مرحباً، ولكن بدلاً من أن أُبادلك بقول مرحباً، يمكنني أن أكون مشغولاً بكتابة أطروحة أو شراء مزرعة للنمل أو زراعة حديقة مصنوعة من الفراولة الافتراضية أو مشغول بتعليم نفسي نظام اللياقة البدنية "بيلاتس" أو مراقبة تطور ونمو شعري على مدى عقد من الصور أو مشاهدة فيديو لقطة ترقص على أغنية ماكارينا. حقيقة أنني لم أبادلك بقول "مرحباً" لا تعني أنني لا أريد ذلك. هذا يعني أنني مُشتت. قد تقول أمي"مشغول"، دون امتلاك الوقت لكتابة هذا.
حسناً، أشك في أن يفهم من هم على شاكلة السيدة فارتمان شكاوي، ولكن إذا لم يكن بمقدورهم تفهم ذلك، إذاً فماذا علي أن أفعل؟ ربما كان عليهم فهم ذلك من تلقاء نفسهم.
– هذه المدونة مترجمة عن النسخة الأمريكية لـ هاف بوست. للإطلاع على المادة الأصلية من هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.