يقول الفيلسوف الصوفي السهروردي المقتول:
تَوَلَّت بِهجَةُ الدُّنيا ** فَكُلُّ جَديدها خَلقُ
وَخانَ النّاسَ كُلَّهُم ** فَما أَدري بِمَن أَثقُ
رَأَيتُ مَعالِمَ الخَيرا ** تِ سدَّت دونَها الطُّرقُ
فَلا حَسبٌ وَلا نَسَب ** وَلا دين وَلا خلقُ
فَلَست مُصَدّق الأَقوا ** مِ في شَيءٍ وَلَو صَدَقوا
حيث كتب هذه القصيدة في حزنه على حال الناس ومَسلكهم؛ حيث تردوا فى النفاق، وخالف باطنُهم ظاهرهم، بحيث تطرقت بداية إلى هذه الكلمات؛ لأن وعي الإنسان غالباً ما يرتبط بخيباته، وتتناسب هذه الأطراف طردياً مع بعضها، فكلما زادت خيبات الإنسان زاد وعيه تلقائياً، وجميعنا في هذه الحياة -عاجلاً أم آجلاً- علينا أن نصل لذلك الوعي الصادم الذي يجعلك ترى نفسك كم كنت ساذجاً بشكل لا يمكن احتماله، وكأنك طفل صغير كنت تعيش في عالم خيالي خاص بك مليء بالأحلام الرائعة والحياة السعيدة والأشخاص الجيدين؛ لتكتشف فجأة أن الحياة الحقيقية هي بعيدة كل البعد عن ذلك!
هذه النقطة الفاصلة بين الأحلام البريئة وبين الحياة القاسية هي ضربة موجعة جداً تكاد تكون أشبه بمواجهتك حادث سير، تستيقظ منه لا تعرف تحديداً
ما الذي حصل ولا تشعر إلا بالألم، تريد أن تعرف فقط أين أنت الآن؟ بل أحياناً تكاد تسأل مَن أنا؟
إلا أنه في طبيعة الحال هو حادث سير علينا جميعاً ارتكابه حتى نتعلم كيف نتجاوزه، هو حادث سير مؤلم وخطير سيكاد يودي بحياتك، إلا أنه وبشكل غريب يحمل معه الحياة وكل معانيها.
كل امرئ في هذه الحياة يواجه حادث سير مختلفاً تماماً عن أي حادث، هو شيء خاص به يستند على طريقة حياته التي قد عاشها مسبقاً، والتي سيعيشها فيما بعد، يستند على كل المبادئ التي يحملها، وكيف سيحافظ عليها أو يُغيّرها للأفضل، إنه يعتمد حتى على الزاوية التي ننظر فيها إلى الحياة وكيفية تقبلنا إلى اختلاف هذه الزاوية بشكل سريع وخاطف، بل يبدو لي الأمر كمن كان ينظر طيلة حياته إلى الأرض حتى تعثر بأحد الحجارة ووقع على ظهره؛ ليكتشف أن هناك سماء واسعة موجودة فوق رأسه، وهي مليئة بالنجوم والكواكب والأجرام وكل شيء مبهم.
وسيكون شعورك حينها خانقاً؛ لأنك لم تكن تعرف أن هناك شيئاً في هذا العالم مختلفاً تماماً عن كل الأمور الاعتيادية التي كنت تعيشها، وكأنك تنتقل من مرحلة إلى أخرى، بحيث إن الحياة بعد تلك اللحظة لن تعود أبداً كما كانت قبلها.
إن ما أتحدث عنه هنا هو شيء واحد إنه الوعي -يا دام عزّك- إنه الوعي الذي سيكلفك الكثير من كل شيء حتى تصل له، شيء واحد عليك أن تفعله في هذه المرحلة، وهو أن تبقى صامداً مهما كلّفك ذلك.
أعرف جيداً ما هو شعور المرء عندما يخرج من عاصفة التغيير تلك، عاصفة تحوله من إنسان بريء سعيد يبتسم ببساطة لكل شيء إلى إنسان واعٍ مدرك لما يدور حوله، ويعلم جيداً أن الحياة لا تمنحنا السعادة بتلك البساطة، بل علينا البحث عنها باستماتة مطلقة، وعلينا أن ندرك أنها تغيّر مكانها بشكل مستمر وتتنقل بين الأماكن وبين الأشخاص بتخفّ تام، أما أنت فدورك هنا هو الأهم في هذه المعادلة البائسة، والتي عليك حتماً حلها بأي طريقة كانت حتى تمضي في هذه الحياة بأقل الخسائر، وإذا أردت ان تصمد للحياة لا تأخذها على أنها مأساة، بل تجاهل كل ما يحصل حولك من أحداث سيئة، وحاول أن تقنع نفسك أنه عليك الاستمرار، وأن هذه الحياة كشعلة، فإما أن تحترق بنارها وتعيش أو أن تطفئها وتحيا في الظلام، لا يبدو الأمر سيئاً إلى هذا الحد إذا قاومت، وعملت على تنمية ملكة الصبر والتجاوز لديك، سيكون الأمر حينها أسهل مما يبدو عليه.
واعلم دائماً أن الجميع سينظر إليك من بعيد، بكل هدوء ولطف، وإذا نجحت لن يطلب أحد منك تبريراً لذلك النجاح عليك حينها فقط الوقوف أمامهم والاستماع لتصفيقهم والاستمتاع بمنظر عيونهم، وهي تحمل كل الإعجاب والتقدير، لكنك إذا هزمت من الأفضل ألا تكون موجوداً لتبرر ذلك،
وكل ذلك لن يحدث، ولن تكون بصدد مواجهته إلا في حالة واحدة، وهي حالة الوعي والإدراك الكامل لما يدور حولك، وهي المرحلة التي ستأتي بعد تجاوزك لحادث السير الذي حصل لك؛ لتصبح بعدها إنساناً جديداً، إنساناً تحدده طريقة تعامله مع الأمور في تلك المرحلة؛ لذلك الجميع يعرف أن اليقظة هي عقاب في عالم حزين.. والنعاس حيلة باهتة للتعاطي مع هذه الحياة.. بوعي أقل، بحزن أقل.
لذلك حاول أن تبدو خاملاً هادئاً حتى تستوعب ما يدور حولك بأقل الخسائر، حاول النوم طويلاً، وحاول ألا تحلل الأمور وتقلّبها بشكل كبير؛ لأنه ذلك سيجعلك تصل لمرحلة أقرب من الجنون، استقبل ذلك التغيير بهدوء، قاتِل فإن أطول رحلة في الحياة تلك التي تؤدى بنا إلى داخل الذات، رافقتنا السلامة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.