عاد السجال التقليدي بين أنصار مادتَي الفلسفة والتربية الإسلامية ليطلّ برأسه من جديد، بعد الاتهامات الموجّهة لوزارة التعليم بإقصاء مادة الفلسفة من امتحانات سلك البكالوريا المهنية، الذي اعتبر استهدافاً لها ومحاباة لمادة التربية الإسلامية، في خطوة للوراء تعزز -حسب رأيهم- الفكر الرجعي، وتحجر على ملكة النقد وحرية التفكير.
طبعاً هذه ليست أول مرة تتلقى فيها الوزارة هذا النوع من الاتهامات، فمع أي إجراء يشتبه في انتقاصه من مادة الفلسفة إلا وتسترجع تلك النغمة، كما أن الأمر ذاته يحدث بخصوص مادة التربية الإسلامية؛ حيث يعتبر أي مسّ أو تهميش لها استهدافاً لهوية المغرب الإسلامية.
وهكذا يتحول أي إجراء تربوي إلى احتراب أيديولوجي عقيم، وساحته الصراع بين مادتَي الفلسفة والتربية الإسلامية تحديداً.
صحيح أن دواليب الوزارة والسلطة تعيش هذا الصراع، وهو صراع حقيقي لكنه غير منطقي، فهذا الإصرار على وضع هاتين المادتين في موضع التقابل والتنافر ليس له ما يُبرره.
نعلم أن جذور هذا الصراع قديمة منذ بدايات النظام التربوي مع الاستقلال؛ حيث كان يقال إن الدولة إذا أرادت أن تشجّع المد الماركسي تدعم الفلسفة، وإذا أرادت أن تواجهه وتقوي التيار الإسلامي تدعم التربية الإسلامية.
الحقيقة أننا أمام نقاش سطحي مبتذل، ذلك أن صعود أفكار وهبوط أخرى لم يكن مرتهناً أبداً بما تقدمه المدرسة المغربية في مناهجها، فالمدرسة المغربية كانت -ولا تزال- أعجز من أن تتمكن من تمرير أية قيمة جادة للمتعلمين، سواء كانت تلك القيمة إسلامية أو وطنية أو إنسانية، فكل ما تملكه هو صياغة كائن مشوَّه لا لون له ولا طعم ولا رائحة، حتى إنه أصبح متمرداً بطبعه على كل القيم التي تُلقنها إياه المدرسة، وإن كانت إيجابية.
وهذا واضح جليّ فحتى القيم الوطنية التي يجهد المخزن نفسه في ترويجها يحقق فشلاً ذريعاً في نقلها للمتعلم؛ حيث إن حب الوطن بات في الحضيض لدى مختلف الأجيال المتعاقبة على مؤسساته التربوية، وكذلك الحال بالنسبة للقيم الإسلامية أو الكونية، فهو حين يصبغ أية قيمة بألوانه الباهتة تفقد مصداقيتها وتفقد جاذبيتها.
النتيجة ألا أحد يستقي قيمه من النظام التربوي المغربي المعطوب، فلا الإسلامي يحتاج للتربية الإسلامية وامتداداتها في الجامعة والتي لا تخرج غير نخب ذات هم "خبزي" صرف، فيما أن غالبية النخب الحركية الإسلامية ذات تكوين مدني، وكثير منها يتجه نحو التخصصات العلمية البحتة، وكذلك الحال بالنسبة لليساري أو الليبرالي؛ حيث لم تكن بضعة دروس في الفلسفة والتي تقدم في حيز زمني محدود كافية لصياغة تصورات ذات نفس "حداثي".
ثم إن التوجهات الفكرية والسياسية السائدة في البلاد هي أكبر من أن يتحكم فيها، فبالإضافة إلى أنها توجهات عالمية وإقليمية كبرى، هي كذلك تعبير عن شرائح مجتمعية وإفراز طبيعي لها واستجابة لجزء من حاجاتها وإجابة عن بعض أسئلتها الملحّة.
وهذا ما يجعل من معاكسة الأوضاع الداخلية والخارجية مسألة محكوماً عليها بالفشل من البداية.
وما يزيد من هزالة ما تقدمه المدرسة المغربية الفضاء المفتوح على مصراعَيه الذي بِتنا نعيش فيه، والذي جعل من إمكانية ضبط الميولات والاتجاهات الفكرية والسياسية للجيل الحالي أمراً بالغ الصعوبة حتى وإن افترضنا أن نظامنا التربوي عصري ومتقدم.
كما أننا بصدد مزاعم غير دقيقة تضع المادتين على طرفَي نقيض من بعضهما البعض، فالفلسفة ليست مروقاً عن الدين، ولا تؤدي بالضرورة إلى الإلحاد أو الزندقة، وما يلقن في التربية الإسلامية لا يمكن أن يكون هو الإسلام، فالإسلام أكبر من أن يُختزل في مادة عرضة للتوظيف المستمر من طرف السلطة.
هناك أيضاً مَن يصر على رمي التربية الإسلامية بالتحجر واتهامها بترويج خطاب الكراهية وعدم التسامح، على عكس ما يصفون به الفلسفة وانفتاحها وتشبعها بالقيم النبيلة، مع أننا نعلم أن التفكير الفلسفي لا يقود إلى الحكمة دائماً مثلما يزعمون، وإلا كيف نفسر النزعات العنصرية والفاشية وكذلك تلك المعادية للمرأة أو المبررة للرق والطبقية وغير ذلك كثير والتي انطلقت من تصورات فلسفية، بل وصدرت عن عدد من الفلاسفة الكبار وفي مختلف العصور؟!
المشكل لم يكن في طبيعة التخصصين فالانحرافات والتجاوزات موجودة فيهما معاً، لكن المشكل يتجلّى في ذلك الإقحام المبالغ فيه لصراعات النخب السياسية والفكرية في البلاد عبرهما، وتحميلهما ما لا يطيقان والمبالغة في تقدير دوريهما في المنظومة التعليمية؛ حيث يتبين لنا أننا ورغم عقود من الممارسة ما زلنا عاجزين عن فهم نظامنا التربوي، وعن إدراك حدود تأثيره في مجتمعنا.
مع هذه السطحية التي تفكر بها نخبنا وتلك العقليات العتيقة التي تفرض علينا الخوض في أحاديث من زمن السبعينات الغابر، فإننا لا يمكن أن نلمس جوهر أزماتنا حتى لو فُتح الباب لإصلاح حقيقي في منظومتنا التعليمية؛ حيث سنغرق في جزئيات بعيدة تماماً عن واقعنا المزري، تحرفنا عن مسار الإصلاح العميق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.