رسالة إلى “الشامت” بالمرض

أقسى اللحظات التي نعيشها في مشوار العمر هي لحظات الموت رعباً من المرض المجهول الذي يسكن الجسم، وتتعطل معه الأناقة، وتتعطل معه الأسماء والألقاب، ويتعطل التاريخ، وتصبح الأيام ساكنة داكنة، وتصوم الطيور عن التغريد كأنها تشاركك الأحزان، وتتساءل:

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/21 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/21 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش

الغافل من نسي الله، واستمتع بدنياه، واتخذها عطره وملهاه، وفرط في عمره، وسلم أمره لهواه يلعب به كيف يشاء، والعاقل من فطن وتدبر أمر غيره، وفكر في أمره، ومشيبه قبل أن يمشي على عصاه، ونظر في قبره ليراه كيف بناه، وماذا سيحمل معه من دنياه لاُخراه ليلقى به الله جل في علاه.

ليعلم كل إنسان على ظهر الأرض أن ما من بشرِ إلا وسيذوق مرض الموت حتماً، ولكن بطعم مختلف ألوانه، ولم يشابه كأس أحد غيره منذ أن خلق الله الخلق بأمره إلى أن يأذن سبحانه لكل شيء بالفناء، ولم يبقَ إلا وجهه العظيم الكريم.

سبحانه وتعالى، عجز الأطباء والحكماء قبل الملوك والرؤساء عن تحصين أنفسهم أمام المرض الذي قصم الرقاب، ولم يحجبه حجاب، ولم يُغلق في وجهه باب، فمرض من كان يداوي المرض لغيره بنفس الداء، ولم يجد له دواء، وأوقع نفسَهُ بنفسهِ أسيرُه، وحار الطبيب وخانته عقاقيره.. سبحان الله.

المرض ليس في عنقه جرس إنذار؛ لأنه مخلوق من رحم الغيب لا يحترم شيباً ولا يعظم وقاراً، وليس بينه وبين ملك أو سلطان عمار.. طعمه مرار.. ليس منه مهرب، ولا يجدي معه فرار، وهو ليس بعار ليشمت من مُتّعَ بتاجه فيمن خطفته مخالبه وأنيابه.
كل سوف يذوقه حتماً وإن طال العمر أو قصر؛ لأن الله تبارك وتعالى كما كتب على كل شيء زكاة، فإن زكاة الصحة المرض، وزكاة الجسد الموت.

أيها الراقد على سرير المرض: لن تستطيع أن تقبض على دقات قلبك ليهدأ، لن تستطيع أن توقف ضغط دمك المتدفق، لن تستطيع أن تزيف ولو قليلاً من مرضك؛ لتقنع غيرك بأنك صحيح معافى كي لا يشمت فيك.

إحساس مخيف مرعب، وقد يكون مُخيباً قبل أن تمثل بين يد الطبيب بلحظات ليصارحك بحقيقة مرضك الذي فشلت معه الأدوية في وقف المرض بجسمك أو السيطرة عليه.
يا إلهي نمشي على الأرض نخرقها بأقدامنا، ولا نعلم ماذا تحمل أجسادنا من خفايا أو خبايا!

يا إلهي.. لا يملك الإنسان فينا إلا حنجرة ولساناً.. حتى إذا دهسه قطار المرض يدرك بعين اليقين أنها الخاتمة والنهاية والمنقلب، فلا طب ينفع، ولا حكيم يشفع، ولا راقٍ يمنع الخطب إن حلّ.

أيها الشامت.. الذي قال في المرض: "إنه ذنب فلان ابن فلانة".. اتق الله فإنك لست على المرض بكبير، ولو كنت سلطاناً أو أميراً أو وزيراً فإن لك بدناً كما لغيرك بدن، وغداً عن يقينٍ سوف تدفع الثمن.

المرض حكمة بالغة في الحياة ليتعظ الغارق في دنيا التلاهي، ويأخذ من المسكين الراقد على سرير المرض، عبرة لنفسه اللوامة أو نفسه الأمارة، عساه أن يرى في المريض الضعيف الذي لا حول ولا طول له ولا قوة رسالة تحذره.. أو ينذره لفظ "آهٍ" فيخترق سمعه ويقع في قلبه، فيدرك أن الإنسان بسطوته وقوته وجبروته سيحل عليه يوم عَسِير سيكون فيه أضعف بكثيرٍ من جناحِ بعوضة.. فليتقِ الله الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه المرجع والمصير.

أيها الغني العفيّ، لا تغتر بصحتك اليوم فإنها اُهديت إليك في بدنك على سبيل الأمانة، فلا تجعلها عليك حسرة وندامة، واعلم بأن ما استُخلِفت فيه بالأمس سيؤخذ منك في الغد، وحين ترقد على سرير المرض سوف تكتشف المفاجأة!

عشرات من الأطباء يتفحصون الجسد المُسجى بين أيديهم، وكأنه صندوق أسود، وقرارهم قد لا يتعدى سطراً واحداً، ولكنه بلا شك صادم: "هذا الجسد الراقد بداخله مزرعة من الأمراض تُسقى بدمِ واحد"!

في هذه اللحظة عبثاً تحاول النهوض كالحصان، لكن الجسد لا يقوى على الحركة لقد خذلك ولم يعد كما كان زمان، وتمرد عليك وخيب فيك أملك، وهنا تُدرِك أنك سوف تمضي حياتك وحدك، تمضغ الأحزان وحدك، وتلعق جراحك وحدك، وتموت وحدك.

أقسى اللحظات التي نعيشها في مشوار العمر هي لحظات الموت رعباً من المرض المجهول الذي يسكن الجسم، وتتعطل معه الأناقة، وتتعطل معه الأسماء والألقاب، ويتعطل التاريخ، وتصبح الأيام ساكنة داكنة، وتصوم الطيور عن التغريد كأنها تشاركك الأحزان، وتتساءل:

هل جاء وقت الحساب في الدنيا لتصفية ما بينك وبين خلق الله؟
إذا شعرت بنفس الإحساس، وغلبتك الآه.. لا تتردد في مناجاة الله.. قُل يا من بيده الموت والحياة.. يا من يجير ولا يجار عليه سامحني.. سامحني يا الله أموت من الرعب.. سامحني لقد عظمت ذنوبي، وانصرف عني الطبيب، ونسِيت كلمات الرُقية، وضاقت الدنيا، واقتربت الساعة، وعيناي شاخصتان صوب باب رحمتك.. اللهم اصرف عني عذاب جهنم يا رحيم إن عذابها كان غراماً، ولا تصرف عني وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، فإن من حُرم من نور وجهك كان أشد بؤساً وإيلاماً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد