عندما يصبح النفاق استراتيجية: حول سياسة “تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب” في العالم العربي

أربع كلمات يتم استخدامها من قِبَل هذه الأنظمة القمعية لتحوير الأنظار عن أصل العلة في الإرهاب، أي: لتحوير الأنظار عن هذه الأنظمة بالذات.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/19 الساعة 01:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/19 الساعة 01:34 بتوقيت غرينتش

هي عبارة تتردّد بعد كل لقاء بين زعيم عربي ومسؤول غربي، خصوصاً منذ ظهور داعش، ولا سيما بعد هزيمتها.

هي لازمة نمطية من إبداعات اللغة الخشبية، يتمّ تضمين كلّ المقررات والبيانات النهائية بها تلقائياً، لا سيما تلك الصادرة عن المؤتمرات حول مكافحة الإرهاب.

هي استعارة زجليّة أضحت من فولكلور (تراث) مؤتمرات الحوار بين الأديان -وما أكثرها في الآونة الأخيرة- التي غالباً ما تجري برعاية نظام من أنظمة القمع العربية، وبإشرافه المباشر؛ تطرب لها جوقات المشاركين من منظمات وجمعيات مدنية، و"حكماء" المؤسسات الدينية، فيسيّدونها على باقي نقاط بروتوكولاتهم، ويزيّنون بها توصياتهم.

"تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب"، أربع كلمات فقط كفيلة بضمان قبول أوراق اعتماد أي نظام قمعي عربي لدى الدول الغربية، وتأمين استمراريته، لا سيما تلك الأنظمة العربية الرائدة في الثورات المضادة للربيع العربي، خصوصاً في فترات انتقال السلطة من جيل إلى جيل، أو قُبيَل انتخابات رئاسية "ديكورية"، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة فيما خصّ أسباب الإرهاب الفعلية، وعلى حساب حرية الشعوب العربية، وحقّها بحياة كريمة وبالازدهار.

أربع كلمات يتم استخدامها من قِبَل هذه الأنظمة القمعية لتحوير الأنظار عن أصل العلة في الإرهاب، أي: لتحوير الأنظار عن هذه الأنظمة بالذات.

أربع كلمات تستعمل لغضّ الطرف عن حقيقة أنّ هذه الأنظمة تشكّل الأرضية الخصبة لنشوء الفكر المتطرّف والحركات الإرهابية، لا سيّما بسبب احتكارها للسلطة لفترات طويلة، وبممارساتها البوليسية من قمع للحريات العامة، واعتقال المعارضين السياسيين وتعذيبهم، ومنع إمكانية التعبير عن أي رأي يختلف عن الخطاب الرسمي.

هذا عندما لا تكون هذه الأنظمة متواطئة بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحركات الإرهابية، التي غالباً ما تشكّل حليفاً موضوعياً لها، أكان ذلك عبر التمويل، أو الإمداد بالسلاح، أو تسهيل عبورها من أراضيها، أو إخراجها من السجون في أوقات الحشرة لمحاربتها بعد ذلك، على طريقة الإطفائي المدمن على إشعال النيران لإطفائها.

وقد بيّن مراراً الصحفيون، الفرنسي نيقولا هينان، والأميركي ميكايل فايس، هذا التواطؤ بين الأنظمة القمعية العربية، لا بل والإسلامية أيضا كإيران، من جهة، والتنظيمات الإرهابية من جهة أخرى. (1)

إذن، هي أربع كلمات كافية للدفع بكل مدعي اختصاص، أو علم، أو ثقافة، للإشاحة بنظره عن تلك الأنظمة العربية، ولإطلاق العنان لخطاب الإسلاموفوبيا، وأدبياته القائمة على الخلط المتعمّد بين المفاهيم، لا سيما بين الإرهاب والإسلام.

فقد وصل الجهل والصفاقة ببعض مدّعي التنوير، الذين يجهلون مثلاً أحكام علم أسباب النزول، أو علوم التفسير، لا سيما نظرية الناسخ والمنسوخ، أن يدعوا إلى حذف الآيات المكية من القرآن الكريم، وإلى كل ما يؤدّي إلى تغيير طبيعة الإسلام كدين ودنيا، التي تميّزه عن باقي الأديان.

وغالباً ما تأتي هذه الدعوات من قبيل تسوية الحسابات القديمة مع الإسلام ومن دان به، كاشفة عن ذهنية متقوقعة، وعن أحقاد تاريخية يتم تغليفها بقالب ليبرالي يدّعي الانفتاح.

والمؤسف أنّ الخطاب الرسمي حول "تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب" في العالم العربي، يلقى آذاناً مصغية لدى شرائح واسعة في البلدان الغربية.

أما سبب ذلك، فيعود إلى مزيج من العنصرية، والإسلاموفوبيا، والنظرة الدونية الاستشراقية (بمفهوم إدوارد سعيد للاستشراق) للعرب والمهاجرين منهم (خصوصاً سكّان الضواحي)، وباسم واقعية سياسية منتشرة في دوائر القرار، تدعو إلى دعم الأنظمة القمعية في العالم العربي بوجه التنظيمات الإرهابية، كأهون الشرّين.

إلا أنّه بتبنّي أنظمة العالم العربي لهذه السياسة كاستراتيجية لمخاطبة الغرب، يتمّ دفن رؤوس الجميع بالرمال أمام حقيقة أن السبب الأساسي وراء الإرهاب هو ذو طبيعة سياسية، وليس دينية.

يتفق الكثير من الباحثين والكتاب والمؤرخين الغربيين، من ذوي الاختصاص في العلوم السياسية، لا سيما خبراء العالم العربي والإسلامي، من أمثال الفرنسيين "ألان غريش"، و"فرنسوا بورغا"، و"باسكال بونيفاس"، و"كريم إميل بيطار" (لبناني – فرنسي)، و"بيار – جان لويزار"، وحتى "أوليفييه روا"، على أنّ الإسلام كفكر وعقيدة ليس سبباً للإرهاب، بل إنّه مجرّد مطيّة للحركات الإرهابية، التي تحاول استعماله في خطابها المؤدلج، وذلك لخدمة أهداف سياسية. (2)

بالرغم من ندرة ظهورهم الإعلامي؛ إذ إن وسائل الإعلام الغربية تفضّل استضافة الاختصاصيين في الترويج للإسلاموفوبيا، لا سيّما من "المثقفين" من أصول عربية، الذين يذكّرون بظاهرة الوشاة أو المخبرين من السكان الأصليين، التي كانت رائجة أيام الاستعمار، يعتبر هؤلاء الكتاب، آنفو الذكر، أن ليس القرآن الكريم هو سبب الإرهاب، ولا السنّة النبوية الشريفة، ولا كتب الفقه والكلام، بل إنّ منابع الإرهاب هي بالدرجة الأولى سياسية، اجتماعية، اقتصادية.

تنتج هذه الأسباب عن عدّة عوامل، أهمّها وجود الأنظمة القمعية في العالم العربي منذ وقت طويل جداً، ودعم الغرب لهذه الأنظمة الفاسدة ولبقائها، مع ما يرافق ذلك من حروب، وفقر، وبطالة، منتشرة في ظل هذه الأنظمة.

هذا بالإضافة إلى الاستعمار القديم – الجديد، ولو بوجوه متجدّدة (استعمار اقتصادي، ثقافي.. إلخ)، الذي نشأت الحركات الإسلامية بالأساس كردّة فعل ضدّه (وجهة نظر "بورغا"، و"لويزار" خصوصاً)، والصراع العربي – الإسرائيلي، وتعدّد الاحتلالات العسكرية والوصايات الغربية في العالم العربي، مع ما يرافقها من نهب لثرواته، ومن خرق متواصل للقانون الدولي، وللقانون الدولي الإنساني، واعتداء على المقدسات، وشعور المواطن العربي بالظلم والذلّ والهوان أمام المعتدين على وطنه.

هذه كلّها هي الأسباب الحقيقية، والواقعية، والفعلية، وراء تفشّي ظاهرة الإرهاب، التي من شأن معالجتها اجتذاذ الأرهاب من أصوله؛ وليست بعض النصوص والتأويلات الدينية هي العوامل الأساسية التي يعتدّ بها كأسباب للإرهاب.

ولذلك، فإنّ تجفيف منابع الإرهاب يكون بإيجاد حلول لهذه المشاكل السياسية بالدرجة الأولى، وليس أي شيء آخر.

والدليل الإضافي على أن الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإرهاب هي أساساً سياسية وليست دينية، هو أنّ الحركات التي كانت تنعت بالإرهابية في العالم العربي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لا سيما ضمن فصائل جبهة الرفض الفلسطينية، لم تكن إسلامية، ولا إسلامويّة، بل على النقيض من ذلك كله، إذ إنها كانت يسارية.

ففي العقود الماضية، شكّلت الماركسية أحد القوالب العقائدية الأساسية للحركات التي كانت تصنّف إرهابية في العالم العربي، ولكنّها لم تكن العلّة وراء هذا "الإرهاب".

فمثلاً، أسباب عمليات خطف الطائرات التي قامت بتنفيذها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (بقيادة "جورج حبش") في العقود الماضية، بإشراف "وديع حدّاد"، لم يكن محرّكها العقيدة الماركسية، بل سبّبتها كلّ العوامل السياسية الآنفة الذكر، التي ما زالت، هي نفسها، متمادية في عالمنا العربي، حتى يومنا هذا.

وبالمناسبة، ربّما من الجدير التذكير، أنّه كردّة فعل على تعاظم قوّة الحركات الماركسية في العالم العربي، قد قامت بوقتها كثير من الأنظمة العربية، بإلهام مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، بتقوية الحركات الإسلامية كي تقف بوجه الحركات اليسارية. وليس سرّاً أنّ دعم الأنظمة العربية، ووكالة الاستخبارات الأميركية، للحركات الإسلامية (التي ستكون بعد ذلك نواة للقاعدة وطالبان)، قد استفحل بعد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في بداية الثمانينات.

أي بكلام آخر، بعض الحركات الإسلامية – التي سوف ينتهج بعد ذلك جزء منها الإرهاب – نشأت أساساً بهدف محاربة ما كان يسمّى بالإرهاب اليساري.

فكيف للإسلام، الذي تمّ اعتباره في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، درعاً ضد الإرهاب (اليساري)، أن يصبح هو نفسه سبباً للإرهاب؟ هذا المنطق لا يستوي.

فالسبب الحقيقي وراء الإرهاب، كما بيّنا آنفاً، هو في مكان آخر، السبب سياسي.

كلّ هذا لا يعني نهائياً أنّ مكافحة الفكر الديني المتطرّف ليست ضرورية، هي طبعاً ضرورية، ولكن الأكيد أيضاً أنها ليست كافية، ومن غير الصحيح علمياً اعتبارها أولويّة، لاجتذاذ أصل الإرهاب؛ لأن أصل الإرهاب سياسي.

كما أنّ هذا لا يعني إطلاقاً أنّ الأسباب السياسية للإرهاب يمكنها أن تشكّل، بأي شكل من الأشكال، مبرّرات أو مسوّغات له.

إنّ محاولة الإضاءة على هذه العوامل السياسية هي، أولاً وأخيراً، من باب محاولة استبيان الأسباب الحقيقية للإرهاب، وذلك بهدف تجفيف فعلي لمنابعه بالعودة إلى أصل المشكلة، وليس مجرد تجفيف صوري خطابي نفعي، لحاجة في نفس يعقوب، كما هو حاصل حالياً مع الأنظمة القمعية في العالم العربي.

ولذلك، لن يسقط هذا الخطاب المنمّق في العالم العربي، حول تجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، إلّا عندما يصبح الزبائن الغربيون للسياسة المواربة التي يحتويها، الذين يُوجَّه لهم بالدرجة الأولى هذا الخطاب الدوغماتيكي، مستعدّين لأن يتحلّوا بالجرأة الضرورية لصدّ المتملّقين لهم، ولمواجهتهم بالحقائق، والتصدّي إلى الأسباب الفعلية والمشتركة للإرهاب (السياسية)، وليس فقط توجيه الأصابع إلى تلك العوامل (الدينية) التي هي، في أحسن الأحوال، مجرّد عوامل ثانوية ورديفة، ولكنّها للأسف تريحهم بتجريدهم من أي مسؤولية عن الإرهاب، وبإلقاء اللوم حصراً على الآخرين.

___________________________________________________________

(1) HENIN (Nicolas), Jihad Academy, Fayard, 2015

WEISS (Michael), HASSAN (Hassan), ISIS : Inside the Army of Terror, Regan Arts, 2015

(2) BITAR (Karim Emile), " Califat de l'État islamique, an I : et maintenant, le monde va où ? L'extension du domaine de la terreur ", L'Orient- Le Jour, 29 juin 2015

BONIFACE (Pascal), Les pompiers pyromanes. Ces experts qui alimentent l'antisémitisme et l'islamophobie, Pocket, 2016

BURGAT (François), Comprendre l'Islam politique, La Découverte, 2016

GRESH (Alain), " Lettre ouverte au monde musulman, de Abdennour Bidar. Une fabuleuse découverte sur l'islam ", Les blogs du Diplo, 27 mars 2015 ; " Bidar, ces musulmans que nous aimons tant ", Les blogs du Diplo, 25 mars 2012

LUIZARD (Pierre- Jean), Le piège Daech, L'Etat islamique ou le retour de l'histoire, La Découverte, 2015

LUIZARD (Pierre- Jean), Histoire politique du clergé chiite, XVIIIe- XIXe siècle, Fayard, 2014

ROY (Olivier), Le djihad et la mort, Seuil, 2016

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد