قناع التخصُّص وسيماء المثقف الفاعل

إلى متى ستبقى نُخَبُنا المحروسة كالأدمغة الموضوعة في سطل، معزولة عن محيطها ومنفصلة عن جسدها؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/19 الساعة 01:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/19 الساعة 01:00 بتوقيت غرينتش

حين ينتقل المرء من مرحلة الحوار مع الذات بمعنى حديث النفس، أو في إطار التمركز المعرفي (أنا التخصص)، إلى مرحلة المحاورة الفاعلة مع الواقع الإنساني، متصلاً بهموم الناس وتطلعات المجتمع، فإنه يَتحرّر من "سلطة المعرفة" المنغلقة على نفسها من جهة، وكذلك يُحرّر تجربته الخاصة إلى الفضاء العام، الذي يتشارك فيه كافة الناس لمناقشة قضاياهم ومشكلاتهم على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم، من جهة أخرى.

وتحرُّر مزدوج كهذا يُحدث ثغرات في جدران الذات والمعرفة، تفتح إمكانية تنوير الآفاق الخاصة والعامة على مستوى الفرد والجماعة، من دون أن يستدعي ذلك تضحيةً بالمعرفة لحساب الذوبان في المجموع، بل يرقى هذا التحرر بالمعرفة المكتسبة إلى ممارسة حية تترك أثرها الروحي في الوجدان، بقدر ما تترك بصماتها المعرفية في الميدان.

هنا يصبح للفاعل المسؤول في مجتمعه "سيماء معروفة" ذات دلالات رمزية تعكس حضوره الدؤوب مع الآخرين، بذكائه العاطفي والاجتماعي، إصغاءً لشكاواهم وإحساساً بأوجاعهم وتَعَرُّفاً على كيفية مكابدتهم لمجرى الحياة الحديثة بقيمها الحاكمة وتفاصيلها الصغيرة.

ولنا في الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ العالمي مثال حيّ على عنصر التفاعل العفوي مع التجربة الإنسانية المتجسدة في طفل صغير وشيخ كبير وشاب مراهق.

فكان هؤلاء الأحرار لا يُقَلِّلون من حجم معاناة الشريحة المهمَّشة في مجتمعاتهم؛ لكونها تشكل مداخل سوسيولوجية للكشف عن الحقائق الاجتماعية النسبية.

أما اليوم، فإن النخب القائمة على مجتمعاتنا العربية أمست مشغولة بالملفات السياسية والأيديولوجية عن التحولات الكبرى التي يعرفها المجتمع المعاصر، بدءاً من صعود المدن الرأسمالية وتفكيكها الممنهج للعلاقات الأفقية بين الناس، مروراً بالسيولة المعلوماتية وما ينتج عنها من شتات في الإدراك والفهم، وصولاً إلى زوال الخصوصية بفعل موجة "التكشف" على ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي.

وبالتالي، كيف يمكننا على ضوء هذه الإشكالات والتحديات أن نواجه واقعنا الجديد، ونحن نتصارع على كرسي هنا وصفقة هناك وحيثية اجتماعية هنالك؟!

ألا يؤشر وعينا المثقوب هذا إلى تراجع ثقافة الأولويات، وبالتالي ضعف القدرة على رصد التحولات المستجدة؟ وفي سياق سقوط الثنائيات الضدية والحتميات التاريخية مع الفتوحات الجديدة التي عرفها الحقل العلمي في العقود الأخيرة، هل يعود بمقدورنا الفصل بين الظروف الموضوعية والتجربة الذاتية؟

إذن، لا بد أن يجمع الفاعل المسؤول إلى المعرفة الموضوعية بالواقع، الحكمة العملية وهي الحصافة التي لا يقطف ثمارها بالتعلم أو التحصيل، وإنما يُصيبها بالتواصل المباشر مع التجربة المعيشة في مفرداتها اليومية.

والحصافة كما يُبَيّن المفكر الجزائري محمد شوقي الزين "ليست هي العقل، بل الاستعمال الوجيه والجمالي للعقل، أي إقحام العقل في الفعل أو في الشؤون البشرية للحصول على حُكم سليم".

يكتسي هذا الموضوع راهنيته في سياق مرحلة العولمة التي أصبح فيها الواقع المجتمعي مستويات عديدة، يمتد من المحلي إلى العالمي وما بينهما من مساحات، صار إلى حد بعيد يديرها منطق السوق، كما أن الرأسمالي أصبح يخترق بنعومة شديدة مجالات اليومي من حياة الأفراد، إلا ما رحم ربّي، فبات من الصعب على الباحث إدراك هذه المستويات وتداخلها ما لم يكن متوفراً على رصيد من الخبرة الذاتية، تُمَكِّنه من بناء جسور صلبة تربط قلق الباحث بتساؤلات الجماعة، وتربط الفكر بتحديات روح العصر.

لذلك، نادراً ما نجد هذه الأيام كاتباً أو أكاديمياً أو أديباً أو عالم دين يلتزم بنموذج المثقف العضوي، ويسلك سبيل التحرر من "سلطة التخصص"، ويحمل مصباحاً للتنوير، يمحو به العتمة المظلمة التي تلف قضايا مجتمعه الحساسة.

هذه القضايا تشمل تداعيات وسائل التواصل الاجتماعي على ذهنية ونفسية الأفراد المسكونة بهواجس المقارنات وتصديق التوقعات وعرض الإنجازات، تحت وطاة "ثقافة المنظر"، فضلاً عن الضغوط الناجمة عنها كحالات الاضطراب النفسي وتقلّص مهارات التواصل بين الجيل الشبابي الصاعد والجيل الأكبر منه سناً.

يبدو أن سقفنا الثقافي، سواء على مستوى الخطاب الديني أو الأدبي أو السياسي، لم يرقَ بعد إلى متاخمة حدود تلك الأسئلة الجديدة المطروحة على الإنسان المعاصر على ضوء تسارع وتيرة الكشوفات العلمية والوسائل التقنية.

والعجيب أن معظم النخب التي قدمت نفسها في الماضي -ولا تزال تقدم نفسها في الحاضر- تحت عنوان الثقافة، قد كسرت المصباح واختارت أن تمشي في الظلام، فأمست محجوبة عن مشهد الحياة الحديثة الحافل بالكثير من المستجدات الخطيرة، وهي مستجدات تنتظر مَن ينظر إليها بنظارات جديدة؛ حتى يشتبك معها بروح إنسانية متوثبة.

فإلى متى ستبقى نُخَبُنا المحروسة كالأدمغة الموضوعة في سطل، معزولة عن محيطها ومنفصلة عن جسدها؟ فلنتأمل في المثل الصيني الذي يقول: "إذا لم نُغيّر الوجهة، فإننا سننتهي إلى حيث نسير".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد