قابلته في مطار برشلونة الإسباني، كان كهلاً سوريّاً حليق الذقن، قد ارتدى بذلة رمادية أنيقة، قد اختفت من تحتها ربطة العنق.
قال إنه سيطير إلى إسطنبول في رحلة ترانزيت في طريقه إلى القاهرة، فأبديتُ شوقي لقاهرة المُعزّ، وسرعان ما انتابته الغيرة الطفولية، فبدأ يتغزل بدمشق، وأهل دمشق، وحواري دمشق، فقلتُ بحُسن نيّة إنّنا لا نستحق مدينة رائعة كتلك، فانبرى وهو يشعر بأنني قد أخالفه الرأي.
ومخالفة الرأي في العقل العربي هي مرادف للحرب والعداوة والمبارزة، وهي فرصة لزيادة الغيّ والمبالغة والاستعانة بكل الحجج والأكاذيب لرفد الرأي.
انبرى مُجالسي يُبارز فكرتي قبل أن أكملها، وبدأ بالترنم بأمجاد السوريين، مُتجاهلاً أنني منهم، وبدأ يجزم أن أفضل أطباء العالم هم سوريون، وأن ألمع عقول الناس هم عقول سورية، وأن أعذب شعر قيل من قبل سوريين أو لهم، وأن نساء الشام هن الأجمل والأكثر أدباً والأجمل أخلاقاً والأعف والأكثر إثارة.
تحدّث عن أرض الشام التي باركها الله وعدّد الأنبياء الذين صالوا وجالوا فيها.
أسهب عن تجارة حلب وخضرة الغوطة وجمال الساحل وعذب هواء الجبل.
كنتُ كعادتي مُستمعاً جيداً فأغراه الأمر، وبدأ يتهكم عليّ، كوني ممن غربتهم الأيام فغرّتهم الغربة وبهرتهم أوروبا بحضارتها الكاذبة وبإعلامها الضخم وبحريتها المصطنعة.
في برشلونة، في مطار برشلونة، تقابلتُ مع كهلٍ بدأ يستحلّ شتمي؛ لأنّني قلتُ شيئاً لم يرُق له، فزدتُ بعناد متوارث:
لو فعلاً كنا بذلك النُّبل الذي تصف، ولو كنا بذلك الاحترام للقانون والدين والعرف والأخلاق كما تصف، فلمَ تحترق بلدنا من سبع سنين دون توقف؟ لمَ بتنا لاجئين في كل أقطار الأرض كما ترى؟
لمَ كان منّا المُخبر والإرهابي والقاتل والسارق؟
لمَ ما دمنا خير أهل الأرض كما تلمّح، لم نجد طريقة عيش تجمعنا. فلا مناطق الحكومة مستقرة، ولا مناطق المعارضة مستقرة، رغم اعترافي بأفضلية ما تحكمه الدولة بالحديد والنار، عن تلك التي عاث فيها مرتزقة العصور الوسطى خراباً.
لمَ عندما يُقتل أحد المعارضين يكون قاتله سورياً، وعندما يُقتل أحد المسؤولين يكون أيضاً القاتل سورياً؟
لمَ لا ننتمي لهذه الأرض المباركة التي وصفتها؟ فترانا نتوزع الانتماء لأشخاص وفصائل وطوائف؟
أتنكر أن من بقي على الأرض السورية يتّهم من لجأ للخارج بأنه جبان خان الوطن؟ وأن من لجأ يعتبر أن مَن بقي قد فرّط بكرامته ورضي الذل والاستكانة؟
أتنكر أن السوريين الذين تحكمهم الحكومة يعتبرون أن مَن يعيش في المناطق الأخرى إرهابيين، وفي أحسن الأحوال بيئة حاضنة للإرهاب؟
وأنّ من تخلص من حكم الدولة يعتبرون من بقي تحت سلطتها بأنهم شبيحة وقتلة ومجرمون؟
لمَ ما دمنا خير عقول الأرض لا نتقبل وجود الآخر ولا حتى فكره؟
لن تشتمني أنت فقط لقولي هذا الكلام، بل سيشتمني كل من ستنقله له؛ لأننا ما اعتدنا مواجهة الخطأ، فقد علّمنا علماء الدين أن وليّ الأمر هو ظلّ الله على الأرض، وعندما بدأت الدولارات تأتي، بدأوا بشتمه، وعندما حصحص الحق، جمعوا ما استطاعوا حمله وطاروا ليعتكفوا في بلاد الله الواسعة بعد أن أسلموا البلاد للخراب.
لقد علمتنا الحكومة أن الانتماء ليس للأرض، بل للحاكم، وأنه لا قيمة لأرض لا يحكمها الحاكم بأمره.
علمتنا أعرافنا أن كلّ ما خفي عن أعين الناس مُباح، وأن الحرام يتعلق بعدد من يراك تفعله.
علمتنا الحرب أن لحظة سعادتنا هي لحظة سقوط الصاروخ على بيت جيراننا وليس على بيتنا.
وأن راحتنا حين نعرف أن الانفجار قتل جارنا وليس أحد أبنائنا.
تعلمنا كلّ شيء ولم نتعلم بعد مواجهة الحقيقة ودراسة أخطائنا كي لا نكررها.
دعونا نتعلم أن كلّ ابن آدم خطّاء، وأن هذه القاعدة لا تتجاوزنا علّنا نصنع أيّاماً أفضل لصغارنا.
تململ منّي جليسي وتركني وهو يلعن العقل الذي يُشقي صاحبه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.