مفهوم التنمية البشرية يتموضع بشكل عام بالزاوية التي نفهم معناه من خلالها أنه الرفع من المستوى المعيشي لمجتمع معين، وتنخرط في هذه العملية مجموعة من الجهات، تتم تنمية المجتمع عبر الجهود المؤسساتية كالاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية وحرية الإعلام… إلخ.
غير أن مجموعة من المشعوذين ظهرت مع توسّع السوق الاستهلاكية وانتشار وسائل الإعلام، قامت بخلط هذا المفهوم العام بمفهوم خاص ألا وهو "التنمية الذاتية"، أي تطوير المهارات الخاصة بالذات، وهي مجرد حالة من كسب مواهب معينة، بالإمكان أن تتم عبر القليل من التدريب والاهتمام الذاتي (وكلها متوافرة بالويب دون حاجة لهذه المسرحيات النبوية).
فنتج عن هذا الخلط مشروع كارثي لا يمكن أن يصدّق فعاليته سوى الكسالى؛ حيث يصبح نوعاً من الرياضات الكلامية والحركية البسيطة، ذات علاقة بالتطورات الاقتصادية ومحرضاً لثورات اجتماعية، وسأفسرها بأبسط طريقة:
يقوم مدرب أو خبير أو قائد التنمية البشرية (شخص غالباً فشل في التخصص بأي مجال جاد)، بملء عقل المستمع (المقهور والمسلوب اجتماعياً) بتخاريف عن القوة الكامنة، وكل شيء يوجد فيك، النجاح والثروة… من أضغات أحلام البوذيين التي ستجعله رئيساً روحياً وبطلاً ثورياً يلهم الآخرين نحو طريق السعادة وجلب مجتمع الرفاهية.
متناسياً هذا الخبير أن المستمع يخضع لمنظومة اقتصادية معقدة، ويعيش في مجتمع يرزح تحت وطء البطالة (فهو غالباً -الخبير- يردد خطابا آتياً من أميركا دون حتى فهمه أو تفكيكه أو على الأقل مواءمته بحسب البيئة المغايرة)، زيادة على أنني لا أفهم ما فائدة جعل الإنسان قائداً في مجتمعات كمجتمعاتنا، ماذا سيقود؟ غبار الظهيرة؟ أو كلاب الحي الضالة؟!
تجد الواحد لا يتوفّر حتى على قدرة شراء كافية للملابس التي يريد، ويأتي أخبل يعده بالسعادة إذا تتبّع نصائحه -على سبيل المثال- في زيارة هذه البلدان؛ لأن السفر مفيد للعقل الباطن!! أي بلدان؟ المواطن لدينا لا يزال متعاركاً مع سداد فواتير الماء والكهرباء والسكن، وهذا لوحده يجعله بطلاً دون حاجة لدفع 600 درهم لسماع هرطقات هندية.
لكن الخبير يعيب عليه تقصيره في زيارة ماليزيا أو جزر المالديف، فليجد المستمع المسكين على الأقل السيولة التي تمكنه من زيارة المدن المجاورة، ومنها فرصة ليصل أرحامه، ونفكر بعدها في جزر القمر.
والممارسة الخبيثة الناتجة -دون وعي ربما من الخبير الببغاء- هو حينما تعزز تلك الخطابات انطواء المستمع على ذاته وإلقاء اللوم على نفسيته -أي أنه العيب الوحيد- دون ربط المسألة بواقعه والنظام السياسي والتعليمي الذي ساهم بنسبة كبيرة في بؤسه المعيشي، والذي دفعه لسماع تلك التُرَّهات التي تزيد من ضياعه وضبابية رؤيته لمصادر شقائه، التي تبدأ من عقلية أسرته إلى جفاف الفرص الاجتماعية لإثبات الذات ببلده، وجعله متمسكاً -من طرف هؤلاء الخبراء- بمبدأ: نعيب زماننا والعيب فينا! وهو مجرد مقطع شعري للشافعي، والشافعي مجرد فقيه بقدرات لغوية، لا هو بالباحث المتخصص في التشريح التاريخي للمجتمعات، ولا هو بالنفساني المقارن لأنثروبولوجيا الشعوب، حتى نبني من جملة انفعالية له جانباً من علم نفس وجودي لمواطن العصر، وللعلم الشافعي كان شخصية بميول اكتئابية جالدة للذات.
ويأتي المتربعون على عرش حماقة التنمية البشرية (بإمكانية إنتاج حلقات تصويرية لَغَطية)، ويبدأون في مقارنة الدنمارك أو اليابان أو سويسرا بمجتمع كمجتمعاتنا على مستوى التنظيم والتعامل واللطف والنظافة.. لكن لماذا لا يقيمون مقارنة على مستوى الإدارة السياسية والمجهودات الحكومية في توفير فرص الشغل وبناء المرافق ورفع القدرة الشرائية للمواطن وسير العمليات الانتخابية والمواد القانونية التي تهب للمواطن كامل حريته وقيمته الاجتماعية، بتعبير مختزل: لماذا لا يقيم الواحد من هؤلاء مقارنة بين ديمقراطية هذه البلدان وديكتاتورية بلده؟!
تدور مواضيع التنمية البشرية حول كيف تزرع التفاؤل بحياتك، واستمتع بحياتك والطريق إلى التفوق، وإدارة المشاعر وتحليل الشخصية بألوان قوس قزح ومغامرات توم سوير، ورسمنا للخيال جناحين من الأثير وصار لنا صديقاً وسفيراً في دنيا بي بو با هيّا بنا إلى بي بو با.. كنتم مع رسوم متحركة للكبار من تقديم حمودة إسماعيلي.. رسوم الأطفال على الأقل مليئة بالتسلية والمتعة.
وكأن هذه السبيستونيات الراشدة لم تكفِ؛ ليخرج لنا المنوم المغناطيسي الذي يساعدك على تحقيق الإنجازات عبر جلسات التنويم والدخول لعقلك الباطن الخرافي وأنت شبه نائم! ألا يطرح الواحد سؤالاً على نفسه قبل تصديق هذه الغباوة: لماذا لا توظف أجهزة الدولة الأمنية هؤلاء المنومين بالاستجوابات والتخابر وعمليات استخراج المعلومة؟ لسبب بسيط لأنها تعلم أنهم مجرد بهلوانات صدّقوا أنفسهم.
بتوضيح أكثر، الأمر مجرد تقليد استعراضي جاء من مدينة لاس فيغاس، كألعاب خفة تتم بالاتفاق مع المساعدين (يختلطون مع الجمهور لزيادة الإثارة)، وهي بالمجمل من ضمن العروض السحرية التي تقام بالفنادق والمنتجعات لتسلية الزبائن.
الغريب في الأمر أنك تجد المنوّم هنا يتحدث عن حركاته المزيفة (وغير المتقنة بالأساس) بمصطلحات طبية ونفسية، وهو يرتدي بدلة نادل المقهى التي جاءت مع التقليد من فنادق لاس فيغاس، وليس من جامعة كولورادو، والأكثر أنه لدينا ما يكفي من الدجل والتخريف، لا مجال لنضيف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.