تأملتُ (المعايير)، التي طوّقنا الغرب بها؛ كي ننهج نهج مسارهم فيما اعتمدوه من نظم ومبادئ وآليات ومراحل ودرجات، بل وحتى في أنماط حياة، ما جعلنا متخلّفين، إثر التزامنا بما أطلقوه، وسَوَّقوا له، فصار من يمضي وفقه فهو مقبول، وإلا فهو منبوذ، بل لا يلتفت إليه وربما مطرود، فصرنا لا نحن مَن أتقنا ما يُتقِنُون، ولا نحن قدمنا نماذج كنّا قد تبوأناها من قبل، ما جعلنا نهدر الأوقات، ونقلل من القُدُرات، فلم يعد بالإمكان تصدير شباب كأسامة بن زيد ليقود جيوشنا؛ لأنه وفق معاييرهم ما زال طفلاً أو ربما مراهقاً، ولا مثل محمد الفاتح، فمثل هؤلاء لا يَصحّ لهم أن يتكلموا في حضرة كبار السن الذين نحسبهم خبراء، (نفضٌ للمعايير) مطلوب في مجالات عدة، ولعل مراحل التعليم أولها، وأن نفهم نحن المسلمين الإسلام، فمنه نستقي معايير جعلت من هذا الدين مستوفياً لـ(أكملتُ لكم)، منطلقين من (لأتمم مكارم الأخلاق)، فثمة ما يمكن اعتماده من حضارة الغرب المُشوَّهة، منتزعين منها ما يَصلُح.
فخذ مسألة تعليم الحِرَف للأطفال مثالاً، فقد يعتبرونه عنفاً يزاول بشأنهم، أو سن الطفولة عندهم التي تمتد لسنّ الثمانية عشر عاماً، هم أنفسهم بدأوا يُقَومُون معاييرهم، إثر تخطّي سلم مراحل التعليم؛ حيث أضحى توجهاً في بريطانيا وأميركا عبر أساليب من الاختبارات، بل ثمة أطفال في عمر الحادي عشر يدخلون الجامعات في أميركا، ونحن ما زلنا متشبثين بمعايير مستوردة كما لو كانت دستوراً لا يصحّ تعديل بنوده، رِواقُنا الذي كان يتعلم فيه الطالب فنون الأدب والعلوم الممتزجة بقراءة عبر (باسم ربك الذي خلق)، خَرَّجت لنا جهابذة، ونجوم ما عجزت عنه نظم التعليم المستوردة لدينا من طرح نماذج مماثلة، فمتى (نُدرِك)؟
تأملتُ (البسط)، الذي استحوذ عليه نبينا داوود عليه السلام ﴿وَلَقَد آتَينا داوودَ مِنّا فَضلاً يا جِبالُ أَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيرَ وَأَلَنّا لَهُ الحَديدَ﴾، بسطٌ جَمَع ما بين جانبين؛ جانب إيماني، وجانب عملي تطبيقي بحت، بسط مساحته رحبة، يندر أن تجد مَن رسخ له فيهما عَلَماً، وربما من بَلَغ، فلم يبلغ ما بلغه نبينا، فلعلنا نستذكر أعلاماً تألقوا وأنجزوا في الجانب الإيماني، فعززوا لهم راية في مدارج السالكين.
أما الخوارزمي، فقد أَلَانَ بعقله علوماً بحتة، استفاد منها ستيف جوبز وبيل غيت فيما ابتكروه من تطبيقات، لكن في داود (عليه السلام) لم نجد له مثيلاً، إثر بسط استحوذ فيه على الجانبين معاً، بسط عزز لانسجام وتوافقٍ فيما بين روحانية تَواصُله مع الله جل جلاله، فتستجيب انعكاساً عن ذلك الجبال تسبيحاً والطير من حوله، بل يزيد إذ ينعكس ذلك على ما يصنع وينتج، عبر صناعة الحديد الثقيلة، مُشَغِّلٌ في ذلك (الشُّكر) قيمة؛ ليمنحنا مفهوماً شاملاً للعبادة، متسع يستوعب فيه علاقة جمعت فيما بين الروح والإنتاج الصناعي، وما بين ما يخرج من القلب وما يدخل في الجيب، ﴿اعمَلوا آلَ داوودَ شُكراً وَقَليلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكورُ﴾.
تأملتُ في السؤال (الُملِّح) الذي ينتاب أصحاب الملاءة المالية: (والآن إلى أين؟!) بعد أن اشترينا في لبنان ثم في مصر فاليونان فملقا.. هاربين، بل ربما لتأمين حياة كريمة للعائلة حال نشبت الحروب، وها هي الحروب تحصد الملايين وتشرد، وما هي عنا ببعيدة، والنزاعات والتحالفات الدولية تمضي على غير نسق سابق؛ ليظل السؤال مُلحّاً: (إلى أين هذه المرة؟!)، إن سؤالاً مُلحّاً كهذا خاطئ، ولعلنا نطوّعه لتعزيز ما يجعل التوازن أولاً ثم الاطمئنان ثانياً لهؤلاء، ذلك إن علمنا أن القلق ينشأ عن طبيعة الإنسان التي اعتادت على نمط حياتي معين، كي تفاجئه الأقدار بما لم يعتَد عليه من نمط، عبر انتزاع ما وُهب له، أقدار كهذه شأنها أن تهذب وتُلين طبع الإنسان النمطي كي يصبح مرناً، قادراً على التأقلم.
وبالطبع فإن التغيير في الأنماط ليس الهدف بقدر ما هو استهداف (القلب الذي في الصدور) بأن يكون مرتبطاً بكليته بالله، لذا فإن ألحّ عليك السؤال مجدداً فاعلم أن صرفه لن يكون إلا عبر (التأقلم) وفق النمط المستحدث، والتأقلم لن يكون (جسدياً بل قلبياً)، ثم تَتَّبعه بأن تكون نشِطاً فيه ساعياً في جبر ضعف الآخرين، مقدماً صورة نضِرة لجندي، ممتثلاً بالرضا بأقدار الله جل جلاله، متناغماً معها ومتواصلاً، حينها (يطمئن) القلب؛ لأنه ما عاد مرتبطاً بما كان يملكه، وما عاد مرتبطاً بأرض، أما مَن ارتبط، سيواجه حتماً بالسؤال: (فأين تذهبون؟).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.