تسارعت وتيرة تطوير البحث العلمي خلال العقدين الأخيرين في الدول المتقدمة، خصوصاً بعد ظهور العولمة كظاهرة اقتصادية، وما تبع ذلك من تنامي دور تكنولوجيا المعلومات في العصر الحديث.
ولعل المتتبع لسياق التطورات بخصوص هذا الأمر يلاحظ أن الدول المتقدمة قد أولت اهتماماً منقطع النظير للبحث العلمي، وعملت على تطويره من خلال إنشاء المعاهد والمراكز التي تُعنى بالأبحاث العلمية في مختلف العلوم، خصوصاً الإنسانية والاجتماعية منها، أو من خلال العمل على تطوير المعاهد والمراكز التي كانت قائمة ورفدها بكافة الإمكانيات البشرية والمادية اللازمة.
ويحضرني في هذا السياق النموذج الألماني، الذي يعد من النماذج المميزة على مستوى العالم؛ كون أن الاهتمام بالبحث العلمي قد تطور بشكل ملحوظ في تلك الدولة، بعدما أدركت مبكراً أن الاهتمام بالبحث العلمي إنما يُسهم في تنمية المجتمع في مختلف المجالات، إضافة إلى أنه يدر دخلاً إضافياً لخزينة الدولة؛ كونه يشكل جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد المعرفي.
ولعل المراقب لحالة البحث العلمي في العالم العربي يلاحظ أن البحث العلمي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بعدما تم إدخاله إلى غرفة العناية الفائقة؛ حيث إن الدول العربية -باستثناء بعض دول الخليج العربي- لا تولي اهتماماً كافياً للبحث العلمي، بل وتعتبره أمراً ثانوياً على الرغم من أن العرب ساهموا في إغناء الحضارة الإنسانية ببحوثهم واكتشافاتهم وأفكارهم عبر العصور، خصوصاً أنهم ينتمون إلى أمة العلم والقلم والقراءة.
إننا أحوج ما نكون في العالم العربي إلى زيادة الاهتمام بالبحث العلمي وتطويره، خصوصاً في جامعاتنا العربية.
إذ يلاحظ أن معظم الجامعات العربية لا تحصل على تصنيفات مرتفعة بموجب معايير التصنيف الدولية للجامعات؛ كونها لا تولي اهتماماً كافياً للبحث العلمي على مستوى الأبحاث المقدمة من أعضاء الهيئة التدريسية لنيل الترقيات، وهو ما قد يؤدي بالضرورة إلى ضعف المستوى الأكاديمي بسبب نقص المتابعة من قِبَل بعض الجامعات لتلك المسألة الهامة.
إذ يتعين على الجامعات العربية متابعة الأبحاث المقدمة من قِبَل أعضاء الهيئة التدريسية وتقييمها وبحث نتائجها وتأثيراتها الإيجابية على الطلاب والطالبات من جانب، وعلى أعضاء الهيئة التدريسية من جانب آخر.
وقد اتخذت جامعة البلقاء التطبيقية الأردنية قراراً في العام 2016 يقضي بإنهاء خدمات 52 أكاديمياً استناداً لأحكام المادة 18 (ب) (1) من نظام أعضاء الهيئة التدريسية في ذات الجامعة لعام 2007، والتي تنص على أنه تنتهي حكماً خدمة عضو الهيئة التدريسية في حالات معينة، منها حالة تعيينه برتبة أستاذ مساعد أو مشارك بموجب أحكام النظام سالف الذكر، ولم يثبت خلال ثماني سنوات من تاريخ تعيينه.
ويكمن سبب إنهاء خدمة الأكاديميين، وفقاً لتقرير نشرته وكالة عمون الإخبارية بتاريخ 9 أغسطس/آب 2016، إلى عدم تمكنهم من التثبت في الخدمة الدائمة بسبب عدم ترقيتهم لرتبة أكاديمية أعلى؛ نظراً لعدم تقدمهم بالعدد الكافي من الأبحاث خلال الفترة الزمنية المحددة لذلك.
وهدف ذلك القرار، وفقاً لبعض الأوساط العلمية، إلى الارتقاء بمستوى أساتذة الجامعة، ورفع سويّة التعليم العالي وجودته ومخرجاته، تمهيداً لرفع تصنيف الجامعة وفق معايير التصنيف الدولية.
وقد طلبت رئاسة الجامعة، وفقاً لتقرير آخر نشرته وكالة عمون الإخبارية بتاريخ 14 أغسطس/آب 2016، من أعضاء الهيئة التدريسية الذين تم إنهاء خدماتهم التقدم بطلبات من أجل إعادة التعاقد معهم متى رغب أحدهم بذلك.
إضافة إلى سبق، فإن معظم الجامعات العربية لا تولي اهتماماً كافياً للأبحاث المقدمة من قِبَل الطلاب والطالبات، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تدنّي مستوى الطلبة، والحد من قدراتهم التنافسية، وعدم تمكنهم من مواجهة متطلبات سوق العمل المحلي والعربي والدولي، ناهيك عن تراجع تصنيف الجامعات العربية على سلّم التصنيفات الدولية ذات العلاقة.
والبحث العلمي الذي نقصده إنما يتعلق بالبحوث العلمية المتضمنة لأفكار الباحث الأصلية، والتي يتم نشرها وفقاً للأصول والتوثيقات المتبَعة في نشر الأبحاث العلمية المحكمة؛ حيث إن الأبحاث المسروقة أو المزورة إنما تؤدي إلى نتائج عكسية وكارثية، كما حدث مع الجزائر مثلاً؛ حيث أدت الأبحاث العلمية المزورة، خصوصاً ما تعلق برسائل الماجستير والدكتوراه، إلى تضرر مكانة الجزائر من حيث التصنيف الدولي للجامعات؛ إذ لم يتضمن تصنيف شنغهاي الدولي للجامعات اسم أية جامعة جزائرية ضمن أفضل 500 جامعة على المستوى الدولي حتى بداية العام 2016، وفقاً لتقرير أعدته جريدة "العربي الجديد" بتاريخ 7 مارس/آذار 2016، بسبب تنامي حالات السرقة العلمية من جانب، وضعف نشر الأبحاث العلمية المحكمة في مجلات دولية متخصصة من جانب آخر.
وقد أوردت المعطيات غير الرسمية من خلال إحصاء موثق وفقاً لذات التقرير تسجيل 22 حالة سرقة علمية منذ يناير/كانون الثاني 2011 ولغاية يناير/كانون الثاني 2016 في مختلف جامعات الجزائر.
وقد بلغت حالات سرقة رسائل الدكتوراه 16 حالة، في حين بلغت حالات سرقة رسائل الماجستير 5 حالات، وحالة واحدة في بحث علمي، وفقاً للتقرير سالف الذكر.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى رواج ما يعرف باسم "تجارة الأبحاث" في معظم الدول العربية؛ حيث أخذت تلك التجارة في الرواج خلال العقد الأخير دون حسيب أو رقيب، ودون رادع خارجي أو وازع داخلي، وذلك بواسطة بعض مراكز الخدمات الطلابية.
ومؤدى ذلك قيام بعض تلك المراكز بإعداد الأبحاث نيابةً عن الطلاب والطالبات، ما يشمل أيضاً رسائل تتعلق باستكمال متطلبات درجة الماجستير في حالات معينة، وهو ما يشكل ظاهرة خطيرة تستدعي إيجاد السبل الكفيلة بمعالجتها ووأدها في مهدها؛ نظراً لآثارها السلبية على المجتمع عموماً، والقطاع الأكاديمي خصوصاً.
إن انتشار ظاهرة "الأبحاث المسروقة" في العالم العربي إنما يشير للأسف إلى انحدار في مستوى التفكير الفردي، خصوصاً في ظل سهولة الحصول على المعلومات بعد ظهور الإنترنت، وصعوبة التأكد من مصادرها الأولية أو الثانوية في بعض الأحيان، إضافة إلى ذلك، فإن تلك الظاهرة إن دلّت على شيء فإنها تدل على ضعف المنطلقات العلمية والأكاديمية لدى الدارسين والباحثين على السواء ممن يقومون بتلك السرقات العلمية، ورغبتهم الجامحة في الحصول على الدرجة العلمية حتى لو كانت الوسيلة المستخدمة غير أخلاقية وغير قانونية؛ كون أنه يترتب على مثل هذه السرقات العلمية مخالفة قانونية وفقاً للقوانين النافذة في مختلف الدول العربية، كونها تشكل مساساً بحقوق الملكية الفكرية للآخرين، إضافة إلى أن السرقة العلمية تؤدي بالضرورة إلى إحداث انقلاب في المفاهيم التي يجب أن تسود في المجتمع المثالي، وإحلال المفاهيم التي يجب ألا تسود وتغليب المصلحة، حتى وإن كانت غير أخلاقية، على المبدأ الأخلاقي مع ما ينطوي عليه ذلك من إنكار مجهودات الآخرين ونسبتها لغيرهم دون وجه حق، أو جهد محق.
إن وضع حد لتلك الظاهرة الخطيرة يتطلب تطبيق القوانين سارية المفعول بحزم ضد من تسوّل له نفسه القيام بمثل تلك السرقات العلمية.
ويتطلب كذلك العمل على إصدار قوانين جديدة تُعنى بتنظيم البحث العلمي على اختلاف أنواعه ودرجاته، والتي يجب أن تشمل، من ضمن أحكام أخرى، النص على عقوبات تأديبية أو جزائية ضد المخالفين لأحكامها.
كما يتوجب على الجامعات القيام بدورها المنوط بها في متابعة الأبحاث المقدمة من قِبَل الطلاب والطالبات لنيل الدرجات العلمية، خصوصاً الماجستير والدكتوراه، بكافة الوسائل المتاحة، وذلك من أجل ضمان مراعاة الأصول والقواعد الواجب مراعاتها في نشر الأبحاث العلمية.
ويتوجب عليها كذلك متابعة الأبحاث المقدمة من قِبَل الكادر الأكاديمي لنيل الترقيات من أجل ضمان عدم وجود أية سرقات علمية، سواء من أبحاث طلاب أو طالبات أو من أبحاث أكاديميين آخرين محليين، أو إقليميين، أو عالميين.
إضافة إلى ذلك، يتوجب على النقابات المهنية، خصوصاً نقابات المحامين العربية، التأكد من أصالة الأبحاث المقدمة لها من قبَل المتدربين الذي يرغبون بمزاولة المهنة عند انتهاء فترة تدريبهم وتقدمهم بالأبحاث المطلوبة كأحد شروط مزاولة المهنة، بجانب اجتياز الامتحانات المقررة لذلك.
إن المطلوب في الوقت الراهن، إضافة إلى ما سبق ذكره، نهضة شاملة على مستوى الأبحاث العلمية والدراسات الفكرية، مع ما يستلزمه ذلك من ضرورة الاهتمام بتطوير البحث العلمي على مستوى المدرسة ابتداءً.
وكذلك ضرورة العمل على إنشاء مراكز أبحاث علمية في الجامعات في مختلف الحقول، وتوفير مصادر التمويل اللازمة لها على المستويين الرسمي والخاص، وعدم الاكتفاء بالقليل الموجود أو الانكفاء وراء ما يقوم الآخرون في الغرب المتقدم بعمله على أهميته؛ إذ لا بد من رسم سياسات حديثة وصوغ مفاهيم جديدة للبحث العلمي في العالم العربي تقوم على استلهام التجارب السابقة، خصوصاً أن التاريخ قد أثبت بما لا يدعُ مجالاً للشك الدور الريادي الذي قام به العرب في مجال البحوث العلمية عبر العصور وفي مختلف الحقول، كما أسلفنا.
أخيراً، لا بد من التأكيد هنا أن الاهتمام بالبحث العلمي سوف يُسهم دون شك في دفع عجلة الاقتصاد قُدماً إلى الأمام في الدول العربية، وسوف يُسهم كذلك في خلق حالة وعي مجتمعي بخصوص مختلف القضايا، خصوصاً المعاصرة منها، عبر مواكبة التطورات المتسارعة والمتلاحقة في مختلف العلوم، ما يمكننا من اللحاق بركب التطور الإنساني والحضاري قبل فوات الأوان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.