مسكينة هي عواطف عربي القرن الواحد والعشرين! وأشد منها غبناً ومسكنةً عواطف البشرية الجديدة!
لم تعد عواطفنا قادرة على تقديم الجمال والنور للعالم الذي تشوّه عنده صوت المشاعر الحقيقية فشوّشت بعض الأمواج المتطفلة تردده على إذاعة العصر، ولم يجد بداً من أن يوهم نفسه ويوهم الجميع، بمن فيهم أنا وأنت، أن تلك الذبذبات المشوشة هي أغنية رائعة ومعاصرة للعاطفة الحديثة! وأنه لن يفهمها سوى مَن يؤمن بها ويعيش وفقها.
بشرية اليوم تعيش ظلاماً من الجحود العاطفي، وتظن برغم كل إنذارات الخطر التي تستقبلها لَوَاقِطها المتطورة، أنها تعيش بذخاً عاطفياً، وتوسعاً منقطع النظير "لثقافة الحب" المتبادلة بين الأجناس والشعوب، ولا عجب في تصورها هذا؛ لأنها كاليتيمة المسكينة التي ترى كل مَن يمسح على رأسها أباً لها، وإن كان حشرةً سامةً قد تفتك بها.
لكن الأدهى من ذلك والأمرّ أن تستمر في استغلال واستعمال المياعة، والدياثة، والتحلل السلوكي، والمجاهرة بالعلاقات غير الأخلاقية، وغيرها من مظاهر العواطف المزيفة، لأجل الترويج لعقيدة واحدة فقط لا تمثل غيرها، ولا تقدر على تقديم ما هو أفضل منها، وهي الإيمان بالحب من منطلق الواقع الملموس وحده لا غير، فالجميع مرشح لأن يحب ويكون محبوباً، الأصدقاء، والإخوة، والآباء مع أبنائهم، والأزواج، وأصحاب الديانات المختلفة، وحتى تلك المتعادية أحياناً، والجيران، وأرباب الأعمال، والتجار، وحتى رفاق السوء، كلهم قادرون على النهل من هذا المعين الجديد الذي لا ينضب، لكن فقط إن كان لهم توجه واحد أهم من "العواطف" نفسها، وهو "المصلحة الملموسة الواحدة المشتركة"، فهي بمثابة الرابط المقدس الذي يوحد جميع القلوب تحت سقف التصور الذي تسوق له مختلف وسائل الإعلام، والمبادرات الإنسانية العالمية..فتتحول من شعور سامٍ إلى أداة هينة لتحقيق مطامع شخصية، حتى الخسيسة منها، وهنا تصبح الوسيلة هي التي تبرر الغاية! وهذا -لعمري- النفاق الاجتماعي بعينه، وإن اختلفت مسمياته وشعاراته.
لكن لا يفرحنّ المنافقون بصنيعهم….سيعيش" غشاشو العواطف" عزلة نفسية فتاكة، ترمي بهم في نفس الحفرة التي رمموها ببعض الغبار المتناثر؛ ليتوسلوا المشاعر على قارعة الجفاة الذين صنعوهم بأيديهم.
شبابنا اليوم في عزلة مقيتة مع الذات، يملك أحاسيس مكبوتة، يحاول إخراجها في شكل مناسب لكنه لا يقدر، فإن أراد لها أن تنشأ وتصدح في بيئته المشرقية وجد الأعين تترصده كأنما يقوم بجريمة، حتى وهي لا تشكل أي اعتداء على الحدود الشرعية أو القانونية، وإن أراد أن يخرجها في بيئة غربية منعته أصالة نفسه وضمير وجدانه العرفي وتوجهه العقائدي من غرسها في تلك الأراضي، ولو أن مثل هذه الفسائل الجميلة لا تنبت في مثل تلك الأراضي ولا في مثل هذه، إنها أجمل وأرقى من أن تحتضنها تربة بور، فإما أن تقطع جذورها وإما أن تجفف نسغها، وفي الحالتين فإنها ستذبل وتموت.
شبابنا اليوم يرغب بكل جوارحه أن يتبنى قضية عمره، وأن يواليها مدى الحياة، لكن إنذارات الخطر الحمراء من بني جلدته، ومن غيرها، تكاد تعمي عينيه، فتظلمهما كما تظلم نفسه.. يتمنى أنه لو صرح بحبه لمكان مقدس أو أشخاص يحبهم، أو مذهب متوازن ينتمي إليه، أو جهة ترعى مصالح الناس أو تدعم الناس وتنقل معاناتهم وشكاياتهم، مهما كان مكانها أو مجالها، فلن يتهمه أحد من العالمين بأنه متعصب أو طائش، ويرى في نفس الوقت عشرات الآلاف من الأرواح التي تحصد، والقيم التي تنتحر، والاعتدال الذي يذوي؛ ليحل محل كل ذلك جرائم باسم الحب والولاء، ودمار باسم نشر السلام، ومسكنة وذلة تحت راية الحفاظ على حقوق الإنسان، فإذا به يخرج من هذه المعركة الجاحدة بينه وبين نفسه، خاوي القلب، لا يجد إلا القسوة والتحفظ والجفاء سبيلاً للعيش في كرامة، وبعيداً عن المشاكل.. وإن كان يحنّ، ويحنّ، ثم يحنّ…ثم يكبت، وإلى الأبد.
شبابنا اليوم يفهم أنه يحتاج لعاطفة أقوى من شعور إعجاب مؤقت بين رجل وامرأة التقيا صدفة، ويعلم أنه يحتاج أكبر من تملق عابر من الكلمات المداحة التي يتبجح بها زميله في العمل، أو جاره في الحي أو صديقه في الحياة، شبابنا اليوم يفهم أن الكلمات الجميلة لن تؤثر فيه إن كان معدنها خبيثاً، وهو يشعر كيف أن الأفعال والإحساس الصادق بالمودة والرحمة والإحسان والمحبة سيصل إلى نفسه ويهيمن على قلبه حتى من دون أي كلمة تذكر، فيمنحه طاقة إيجابية لتأصيل القيم النبيلة في محيطه؛ لأنه يعلم أنه إن أخطأ فسيجد مَن يقوّم اعوجاجه، وإن أصاب فسيجد مَن يثمّن عمله ويسانده، وأنه إن تردد فسيجد مَن يساعده على اتخاذ قراراته، وإن واجه مشكلة فسيجد من محيطه القريب والبعيد مَن يؤازره ويتعاون معه لتجاوز نكسته، وإن تكاسل فسيجد مَن يحفزه على أداء واجباته، وإن فترت عزيمته فسيجد مَن يذكّره بشحذ همّته، حتى حين يتمرد على الصلاح والخير فسيجد مَن يعاقبه العقاب الذي يُعيده إلى رشده، وليس العقاب الذي يدمره ويشعره بالعار طيلة حياته!
إن شباب اليوم يفهمون كما يفهم الكهول والشيوخ على حد سواء أن على المجتمع أن يكون كالأم الرؤوم التي تصفح وتعاقب وتذكر وتضحي وتساند، وقد تخطئ أحياناً في تربية أحد أبنائها لكن ما إن تدرك خطأها حتى تستدركه بالمراجعة والتصحيح، هكذا يشعرون أن المجتمع يبني نفسه بنفسه، ويطوّر سلوكه بحسن سلوكه، وأنه يتصالح مع أبنائه، ومع نفسه بالدرجة الأولى.. إنهم يفهمون أن بناء المجتمع ليس لبنات جامدة من المعاملات المصلحية الآنية أو الابتسامات الصفراء المنافقة، إنما هو صرح يحتاج فيه أن يسكب كل واحد من أبنائه دمعة من عينه، ونبضة من قلبه، وبسمة من فمه، ولمسة حانية من يده.
المجتمع الجديد الذي يحتضن مختلف الأفكار ويعالجها بموضوعية هو مَن يصنع العاطفة القوية بين أفراده، إن عواطفنا التي تشوّشت، لم تكن تحتاج إلى فجور المشاهد، أو فسوق الدراما، أو صواعق الأفلام، ولا حتى إلى مهرجانات التعارف والاختلاط؛ لأن من أرادوا لها أن تنتشر بهذه الصورة الضحلة لم يفقهوا سعة المشاعر التي تفقهها الفطرة الإنسانية حتى في أبسط صورها، فبدا لهم بعد أن انتشرت الحروب السياسية والعسكرية، والمشاحنات الدبلوماسية، وصدامات المصالح الاقتصادية والمالية، أن أيسر الطرق للتصالح مع نفسية الإنسان المسكين خلف الشاشة الصغيرة، هي تقديم بدائل "مسكنة" لامتصاص غضب "الكيان" الإنساني جراء حالة الهمجية والتناحر التي بلغتها المدنية الحديثة.
يفترض بالتمدن أن يكون وسيلة لدفع الحضارات نحو رؤية توحّد غاية الإنسانية إلى السعي لخدمة بعضهم البعض كما يحبون لأنفسهم، وأن يكون السلم النفسي والاجتماعي هدفاً لأي حركة تطوير في أي مجال من مجالات الحياة.
إن القوة الروحية والعاطفية ينبغي أن تتخذ مسارها وتستعيد دورها لاستعادة الضمير والوحدة الإنسانية، وأن تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، أو من الأعلى إلى الأسفل، فلا يهم من يأخذ زمام المبادرة، بقدر ما يهم مَن يطبقها على وجهها الصحيح، إنني لا أؤيد كثيراً فكرة أنه يجب أن نبادر وفق منحى تصاعدي تلقائي من أنفسنا لنتمكن من التغيير نحو الأفضل، فلا نؤمن أن أي قانون أو قوة عليا تفرض علينا القيام بسلوكات محددة قادرة على التغيير، إن تغيير النفس لا يكون باعثه التحفيز الذاتي دائماً، فنحن في النهاية بشر نأخذ ونتعلم ونتشارك من بعضنا البعض، ولذلك فإن أي إرادة جادة لغرس العاطفة النبيلة في ساحتنا ستؤثر على أنفسنا بشكل إيجابي وتدفعنا للتحسن.
عواطفنا المسكينة، لا ينبغي لها أن تطمس، لا نريد أن نكبت مشاعرنا الخيرة، ولا نريد أن نظل نتكلم فقط بها وعنها فنغدو عجزة شاعريين، لا نريد أن نعيش حياة الشعراء، ولا حياة الجفاة، بل حياة الإنسان بكل الزخم العاطفي الذي يمكنه أن يقدمه من خلال سلوكه المستقيم لنفسه ولأهله ولبيئته.
إن الذكاء العاطفي هو من أقوى أنواع الذكاء؛ لأنه يسمح لنا أن نؤثر على مختلف أنواع الذكاءات الإبداعية والتحليلية والرياضية والمنطقية، كل القادة المتميزين في كل مجالات الحياة تميزوا بنسبة عالية من الذكاء العاطفي الذي يتيح لهم تعلّم أشياء جديدة، والقيام بإنجازات مهمة، والتأثير بشكل إيجابي على مَن حولهم، بل إنهم مرشحون دائماً أكثر من غيرهم لأن يحصلوا على ما يريدون، ويحصلون فوق ذلك على طمأنينة أنفسهم ورضا محيطهم عنهم.
وبهذا الصدد فإنني أدعو أن تعاد صياغة الكثير من المفاهيم العلمية التي يتضمنها مصطلح الذكاء العاطفي، فلا يدع منفذاً للنفاق أو التملق المصطنع، ولا بالبراعة في إظهار الخير وإضمار الشر، ولا بالتفنن في كبت مشاعر الحقد أو النزعات العرقية أو العنصرية أو الأمراض النفسية، وأن يستعاض عن ذلك كله بقواعد موحدة في اللباقة العامة، وحدود في الصراحة، وقوانين في احترام الذات والغير مهما كان اختلاف المواقف والآراء.
العطاء، والبذل، والانتماء الديني الرصين، ومحاولة الشعور بالآخرين ولو من حين لآخر، والانخراط في المشاريع التطوعية الهادفة، وإشاعة ثقافة التسامح والعفو والصلح، وتجسيد برامج -وليس مناسبات- تضامن دورية وطنية أو عالمية، وإدماج التربية "الإنسانية" الممحصة من "المشوشات العاطفية" كل ذلك جزء قليل من آلاف الحلول الفعّالة، التي بإمكانها تنشئة جيل "جديد" بكل ما للكلمة من معنى، جيل يعي خطورة أن يعيش مفرغاً من شعوره بكينونته الروحية، والتي بدونها سيتجه -عاجلاً أم آجلاً- نحو الهاوية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.