في رحلةِ البحث عن النقاءِ

الحياة معترك طاحن، وقليل هم الناجونَ، وهذا الناجي هو ذاك الألمعي الذي امتلك قدرة فائقة على خلق توازن بين "العاطفة" و"العقل"، بين "النظر" و"المحاكاة"، بين "البراءة" و"الانخراط في السوق الاجتماعي"، وكلّ له طرقهُ لتحقيق المنال، والنجاةُ هدفٌ واحد وطرقهُ شتَى، ومن ثم يظلُّ "النقاء" هو السلعة الأكثر ثمناً والهدف الأعظم تضحية.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/11 الساعة 03:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/11 الساعة 03:00 بتوقيت غرينتش

إنه قدري يا رفيقُ، أَفِرُّ مِن قَدر اللهِ إِلى قدرِ اللهُ.. واللَّهُ عَونٌ ومُستَعانٌ.

أُحدثكُ مِن أَرض الله البعيدةِ، من العالم الموازي، ذاك العالمُ الذي طالما حلمتُ أَن تطأهُ قدماي وتتطلَّعُ إِلى تَفاصيله عينَاي، فأدركه كأنني وُلدتُ فيهُ، وكأن كلينا يعرفُ الآخر عن أصلٍ منذ بدء الخليقة!

ما زلت أذكر ذلك اليومَ الذي صعدت فيه إِلى أعلى نقطة من سطحِ بيتنا، جلستُ والعالم بأكمله أمام عيني، أضع سماعاتِ هاتفي في أذنيَّ مستمعةً إِلى ذاك النثر الذي طالما أحببته، لم يكن ثمةَ ما أشعر بهِ غير الخواء والامتلاء، الخوف والشجاعة، الألم والأمل، أضداد لا أدري كيف اجتمعت بكياني، ويكأنه قد كُتب عليّ أن تكون نفسي التي بين جنبيّ محلاً للأضداد دائماً!

كانت العزلة شفائي وديدني، دائماً ما كنتُ أهرب من صخب العالم الرحب إِلى فضاء الفلسفة اللامتناهي، أجلس وحيدة في منتصف الليل والقلم بيدي وعقلي يتلو عليّ مَا عرفه عن أفلاطون، الغزالي، ابن سينا، سبينوزا، والرافعي.. دائماً ما كنت أشعرُ أن ثمة شيئاً ناقصاً، هذا العالم على سعته المفرطة ينقصه أمر جوهري، ما هو يا تُرى؟ ما زلت حتى الآن لا أدرك الإجابة!

اللَّه.. رب العفو والمغفرة، رب الهيبةِ والجَلال، رب الحب والجمالِ، كَان الله رفيقي يوم لم يكن معي أحد، كنتُ أشعر بقربه، بمعيته، بعظيم منته، تلك الطفلة الصغيرة التي بداخلي كانت نقية كبياض الثلج حين يسقط من السماء ندياً ناصعاً، كان جُلّ همّها كيف تصحو باكراً لتشاهدَ كرتونها المفضل: بابار وكعبول والمحقق كونان، ثم تذهب مسرعة إلى "الكُتَّابِ" منافسة بنات عمرها أيهن أسبق إلى الحفظ، الختم والتجويد!

سنواتٍ ما زالَ أثرها مطبوعاً في أعماقِ نفسي حتَّى اللحظة، ما زلتُ أذكر كيفَ كنتُ أسرعُ إلى حضور درس "الكيمياء" الذي كنت أحفظه عن ظهر قلبٍ، كيفَ كنتُ ماهرة في استذكار قواعد الإنكليزية ببراعة، كيف كنتُ أطبق قوانين الفيزياء لأخرج بنتائجَ خاليةٍ إلا من الصحة! ما زلتُ أذكر أيام الجامعة، تلكم الأيام التي قضيتها في غرفتي منكبّة على كتبي أقرأ هذا وأحلل ذاك، لا أكترثُ لما يحدث حولي، فما الذي يضيرني وقد حِيزتْ لي الدنيا بحذافيرها، متمثلة في "كتابٍ وحلم قد كنتُ أظنهُ محالا"!

كنتُ أتوقُ للعمل وخوض تجربة جديدة، بيد أنني لما دخلت هذا المضمار شعرتُ بتغيير كاسح، رويداً رويداً كنتُ أشعر أن الأيام تأخذني إلى ميدانها، منفردة بذاك الأمل التي استبدّ بكياني، وسرعانَ ما نجحَتْ في تغيير نظرتي للحياة، بتُّ أنضجَ، أعقلَ، أكثرَ انفتاحاً واجتماعاً، قد يقول قائل: إن هذا التغيير أفضل بلا مرية، هذا صحيح، لكنّ ثمَّةَ ثمناً باهظاً دُفع مقابل تبنّي تلكم المكتسبات الجديدة! نفسي..

تدور بنا الدنيا، تطحن فينا حلماً وتعيد تكوين آخر، هذا المعترك "العملي" قتلَ فينا ذاك "النقاء" وتلك "السذاجة" الجميلة، انظر لرجل أعمال باتَ جلُّ همّه أن يستولي على ممتلكات خصمه، وانظر لتلك الممثلة المشهورة كيف أصبح شغلها الشاغل أن تصير أجمل من "فلانة" وأكثر شهرة منها.

الحياة معترك طاحن، وقليل هم الناجونَ، وهذا الناجي هو ذاك الألمعي الذي امتلك قدرة فائقة على خلق توازن بين "العاطفة" و"العقل"، بين "النظر" و"المحاكاة"، بين "البراءة" و"الانخراط في السوق الاجتماعي"، وكلّ له طرقهُ لتحقيق المنال، والنجاةُ هدفٌ واحد وطرقهُ شتَى، ومن ثم يظلُّ "النقاء" هو السلعة الأكثر ثمناً والهدف الأعظم تضحية.

وإنني ما زلت حتى الآن أبحث، لا عن فرصة عمل جيدة، وإنما عن نفسي التي تاهت منّي في خضم الأحداث المريرة التي ساورتني، لم يعدْ بي شغفٌ تجاهَ العالم، وإنما بتّ أبذل قصار جهدي للحيلولة بين "الصغيرة" وبين "آلام الحياة"، ما زلتُ حتى الآن أبحث عن النقاء، قد أستغرق ساعات، أياماً، سنواتٍ، وربما دهراً، لا يهم، لكن أن أفقد النقاء بالكلية، فهذا ما لا قُدرة لقلبي عليه!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد