يعتبرُ القرن الثامن عشر في تاريخِ البشرية، مرحلةً حاسمة في تاريخ الفكر؛ حيث كان هو السبب في قيام الثورات الأوروبية (الثورة الفرنسية، الثورة الصناعية)، كما ساهم في تطويرِ الفكر الأوروبي وتحريرهِ من سلطةِ الكنيسة.
إنَّ كتاب "روح الأَنوار" للمفكّر الكبير البلغاري "تزفيتان تودوروف" (2017 – 1939)، هو مادةٌ غنية، وتكمنُ أهميّة هذا الكتاب في أنَّه محاولة جادة لتكييفِ فكر الأنوار مع الإنسان المعاصِر.
لقد بيَّن "تودوروف" في خِضَمِّ كتابهِ أنَّ المبادئ الأساسية التي يرتكزُ عليها فكر الأنوار هي ثلاثة:
– الاستقلالية:
يقصدُ بها هي ضرورة إحداث قطيعة تامّة مع الماضي (السياسة، الفِكر، الدين)، أي يجبُ التخلِّي عن كلِّ ما هو آتٍ من الماضي والتحرر من سلطة الكنيسة التي تفرضُ سلطةً قاهِرة على الأوروبيين.
– الإنسيّة:
هي احتلالُ الإنسان مركز الكون، فمنذُ القرن الثامن عشر تمَّ الإعلاءُ من قيمةِ الإنسان، فأصبح هذا الأخير هو مصدرُ الحقيقة.
– الكونيّة:
أصبحت أفكار التنوير تهمُّ جميع بُلدان العالم، ولم تعُد حِكراً على أوروبا لوحدِها، بل انتشرت هذه الأفكار وقامت بعزوِ العالم دون الاكتراث للفكر أو المُعتقد.
تتَّسِمُ الأنوار في نفسِ الوقت بالعقلانية (ديكارت)، والتجريبية أيضاً مع (جون لوك)، فالأنوار قامت باحتضانِ القدامَى والمُحدثين على حدٍّ سواء.
قام "تزفيتان تودوروف" في كتابهِ "روح الأنوار" بقراءة شبه نقدية وتاريخية لعصر الأنوار في الآنِ نفسه.
وتساءل "تودوروف": كيف لهذا المشروع الذي غيَّرَ أوروبا وحوَّلها من التقليد إلى الحداثة في ظرفٍ وجيز، والذي نادى كثيراً بالاستقلالية والحريّة والإعلاء من شأنِ الإنسان وتقديسهِ ووضعه في مكانٍ يليقُ به، أن يدمر الحياة البشرية.
خلال القرن الثامن عشر تم تأسيس ديمقراطية جديدة، التي تختلِفُ جذرياً عن ديمقراطية اليونان، خصوصاً مع أفلاطون.
فعند اليونان كانت الديمقراطية تستثني المرأة، على خِلاف ديمقراطية عصر الأنوار في التي أقرَّت بمبدأ المُساواة.
الأنوار جاءت بأشياء جديدة، لعلَّ أبرزها، هو تقديسُ الإنسان والاهتمامِ به.
ولكن الصدمة الكبرى أنَّ الأنوار هي السبب وراء تدميرهِ أيضاً، فالتناقضُ واضحٌ هنا، كوضوحِ الشمس في كبدِ السماء.
"فريدريك نيتشه" (1900 – 1844) انتقد العمل وكان ضدّ الشُّغل؛ لأنَّ مع الثورة الصناعية التي شهِدتها أوروبا صار الإنسانُ يشتغلُ صباحَ مساء دون توقف، ولا يأخذُ قِسطاً من الراحة، فأصبح كالآلة.
هنا ستكون البداية الفِعلية لتدميرِ الإنسان تدريجياً، دون نسيانِ تلك المجازر التي ستجتاحُ الإنسانية برمتها، وهي الحرب العالمية الأولى والثانية وصعود الأنظِمة الديكتاتورية والاستبدادية (الفاشية، النّازية)، هذه الأنظمة خرَّبت وأثارت هلعاً واسعاً في صفوفِ الشعوب الأوروبية.
"يورغن هابرماس" (1929) يتحدثُ عن فكرة التقدم ويرفضُها رفضاً قاطِعاً، مؤكِّداً أنَّ الشعوب لا تتقدمُ إطلاقاً، والسبب في ذلك هو أنَّ فكر الأنوار جاء بأفكار من شأنِها الاهتمامُ بالإنسان ولكنَّها دمرته كلياً. فالشعوبُ لا تتقدمُ في نظرِ "يورغن هابرماس"؛ لأنها ما زلت تهيمن عليها وحشية الإنسان التقليدي.
كان الإعلان الرسمي عن ولادة أوروبا الجديدة سنة 1789 باندلاع الثورة الفرنسية، وكان السبب وراءَها هي أفكار بعض الفلاسفة التنويريين مثل: دنيس ديدرو، فولتير، جون جاك روسو، مونتسكيو، وآخرين…
الأنوارُ هي أروعُ إبداعٍ لأوروبا، حسب "تزفيتان تودوروف"، ولم يكُن للأنوار أنْ تؤوي النُّور لولا وجودُ هذا الفضاء الأوروبي الخصب والمتعدد في نفسِ الوقت، فالأنوار هي التي أعطت أوروبا كما نراها في الوقت الراهن، وهذا ما يسمحُ لنا بالقول – وبإقرار – دون مبالغة أو تفريط: "لا أنوار بدون أوروبا، ولا أوروبا بدونِ أنوار". أوروبا والأنوار وجهان لعملةٍ واحدة، كلاهما قد خرج من رحمِ المعاناة والتخبُّط.
بفضلِ الأنوار اكتسحت أوروبا بلدان إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا خلال القرنِ التاسع عشر؛ لأنها صارت قوة إمبريالية عُظمى.
لَعِبَ فكرُ الأنوار دوراً فعّالاً في تحويلِ أوروبا على جميع المستويات: السياسيّة والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. كما تمَّ التخلُّص مِن سلطة رجال الدين والقساوسة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.