المؤسسة الدينية واستحالة التمكين

فلا عجب أن تُترك ميادين السلطة لغيرهم، وكذلك فعندما أمر الله عز وجل بعذاب قرية، قال مَلك بوجود صالحٍ، فأمره الله بأن يبدأ به.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/10 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/10 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش

في الآونة الأخيرة، نظرتُ في بيان كَتَبَته مجموعة علماء، نتاجاً لنقاشهم في مسألة العملات الإلكترونية، ولاحظت شيئاً مثيراً للاهتمام.

بيانُ المجموعة نفسها يذكر اختلافاً بين مَن أجاز التعامل مع العملات الإلكترونية بشكل عام وبين مَن حرَّمها، وكلٌّ له أسبابه. لكن العجيب يكمن في رأي المؤسسات الدينية الثلاث التي ذكرتها الورقة، كل واحدة تتبع لدولة: تركيا، ومصر، وفلسطين.

فعندما تقرأ تصريحاتهم تكاد ترى الدولة تمليها عليهم إملاء، فترى حججاً ركيكة كُتبت على عجل، لا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات السوق، ولا توحي بفهم حقيقي لماهية المادة التي حرِّمت، وفِي هذا خطر كبير لو كانوا يعلمون، ففي نهاية الأمر، تحريم الحلال مما حذَّر منه الله عز وجل، بل ويكاد يكون -إن لم يكن في ذلك اتباعاً للدولة الإله- تألُّهاً على الله.

ومن ثم فقد راجعت مرة أخرى رأي مجموعة البيان، فرأيت في رأيَيْها (أحدهم يرى الإيجاز والآخر التحريم) نضجاً أكبر، وذلك لتضمن المجموعة خبراء وأصحاب رأي، كما تضمَّنت شيوخاً وعلماء، فكان التفاعل بينهم ضرورياً لإنتاج رأيٍّ دقيق يُشعر القارئَ بجدية الفتوى.

كذلك فلا يخفى على أحد أعاجيب الزمان الذي نعيش فيه، فلم يحدث في تاريخ البشرية أن تسارعت التغيرات، وتطورت الأدوات بالشكل الذي نشهده، فلا بد للعلماء من تفاعل حقيقي مع شتى المجالات والخبراء، وأن يصبح هؤلاء جزءاً أساسياً من إنتاج الفتوى حتى لا تفقد قيمتها في أعين الناس. فمن وجب عليه إصدار فتوى في العملات اليوم، قد يرى نفسه مضطراً لإنتاج فتاوى بالغة التعقيد في الذكاء الاصطناعي غداً، والنَّاس ينتظرون.

فمع ذلك، عندما تأملت البيان مرةً أخرى، لم أستطع أن أتجاهل بعضَ ما رأيت كحجج ضعيفة في رأي التحريم، وكأنها وضعت بالمعية مع غيرها من الحجج لتكثير سوادها.

ثم نظرت، فتساءلت، وحاولت تصور الدافع الذي جعل مَن حرَّمها مسرعاً في ذلك، وكأنه الدافع للخطر وإن لم يكن، وهنا كان الجواب المخيف.

حقيقة الأمر، أن المؤسسات الدينية قد تشبَّعت بمنطق الضحية، حتى إن وجودها بحد ذاته أصبح متشكلاً على شكل الضحية، وقد ترى ذلك -إن انتبهت- في كثير من مقولاتهم وحكاياهم. وبذلك تكون أي أداة للتمكين تهديداً مباشراً لها، ولثقافتها، وشكلها، ومعيشتها.

فلا عجب أن تُترك ميادين السلطة لغيرهم، وكذلك فعندما أمر الله عز وجل بعذاب قرية، قال مَلك بوجود صالحٍ، فأمره الله بأن يبدأ به.

بل، ولا عجب لمن أمكنه التمكين منهم أن يتخذ ما يعرفه من خطوات، حتى يُسقط نفسه من هول التمكين إلى دفء الضحية. ولا عجب أن تغضب تلك المؤسسات ممن مـُكِّن لهم من بينهم فأحسنوا المهمة، فغضبها في الحقيقة هو من نفسها، غضبٌ متمثل فيمن يذكرها بمسؤليتها المهجورة.

فكذلك، لا دين إلا الذي حمله وتدافع به الناس، بما فيهم من علماء وخبراء، لا دين المؤسسات، فهي إما تابعة للدولة جهاراً، أو تابعة لها بطريقة أخفى. وكذلك، لا تمكين إلا لمن لديه شجاعة يخوض بها في ذات نفسه كما يخوض بها في العالم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد