حسناً يا وطني العزيز، ماذا بعد؟
يا وطن السنين كلّها، كيفَ لكَ أنْ تمتلكَ الصمودَ هذا كلهُ؟ وكيفَ لا تُتعبكَ السنون وما تحتويه؟ وكيفَ لا تتنهدُ متعباً في وجهها على أقل تقدير؟ وكيفَ تقفُ بعدَّ كلَّ صخبٍ أو موتٍ وجراحكَ مُلتئمة؟ من أين تأتي بهذه القوة الهائلة والقدرة العظيمة على البقاء والحياة؟ من أين تمتلك إرادة الحياة هذه؟
منذُ أن تكونت الأرض، وأذن الله للإنسان أن يكون في جنباتها سائرًا ومخيرًا، تكوّنَ شعورُ الانتماء وكانت فكرةُ الهجرة.
قال الله تعالى في محكم تنزيله، بعد بسم الله الرحمن الرحيم:
"فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (سورة البقرة: 36).
فانتماؤنا الأولُ هو لدارٍ غير تلكَ التي نحنُ بها الآن، وغايةٌ حياتنا ليس إلا لعودتنا لموطننا الأول، وإحساننا في العمل في أرضٍ نحنُ ضيوفٌ بها، هو الذي سيحدد أحقيتنا في عودتنا لدارنا الأولى، هذا مفهوم الهجرةِ الكبرى والوطن الغاية، على الرغم من عدم اتفاقنا كبشرٍ عليه؛ لأنّه متعلق بالجانبِ الإيماني والغيبي، ولأنّه بعيدٌ عن مبدأ اليقينياتِ المشاهدةِ والحقيقةِ المعيشة، وبالإمعانِ نلحظُ – وبشكل مبدئي – أنَّ الزللَ هو المفضي للهجرةِ وهو علّةُ الخروجِ من نعيمِ الأوطانِ، وأنَّ الهجرةَ مهما ابتعدتْ في عمقِ الزمنِ هي هجرةٌ وخروجٌ لحظي، لا يقارنُ مهما امتدت بالمطلقِ والأبديةِ في الحكمِ.
أما مفهوما الوطنِ الأصغرِ والهجرةِ الصغرى، فينحصران بتلك الهجرةِ التي نتداول أخبارها في كلِّ لحظةٍ، وهي ذاتها التي حصلتْ في كلِّ حقبةٍ مضتْ من تاريخنا البشري، وعلى الرغم من كل هذا الصخبِ الدامي في تركيبِ هاتين الفكرتين – الهجرة والوطن – فإننا نرى أنّ الحياةَ لا تتوقف، وأنَّ الأوطانَ لا تموت، بل تولدُ مع كل غضبٍ لئيمٍ من سالبيها عليها وعلى شعوبها، وتُخلقُ من جديد مع كل صرخةٍ لأبنائها وأحرارها في وجهِ الظلمِ والطغيان، وكأنَّ الدماءَ التي تنزفُ من جبينِ أبنائها تغزو صلب قوتها لتزيدها صلابةً ومناعةً، وكأنَّ أقدارها مكتوبةٌ في الصمود وعدم اللينِ والانتهاءِ.
وقد كتبَ مالكٌ بن نبي في كتابهِ (شروطُ النهضةِ) محاولاً فيهِ تقديم تحليلٍ لعناصرِ الحضارةِ، ومعرفةِ الشروطِ الملائمةِ لخلقِ نهضةٍ واعيةٍ:
إنَّ مثلث الحضارة يتكون من عناصرٍ ثلاثة: الإنسان + التراب (المادة) + الوقت.
ونلحظُ أنَّ عنصرَ الترابِ – الذي أَولته بالوطنِ – أتى بعدَ عنصرِ (الإنسان) وقبلَ عنصرِ الوقتِ أو الزمنِ، وهذا يمنحني فسحة للقولِ: أنّه وعلى الرغمِ من كونِ الترابِ – أو الوطنِ – عنصراً مستقلاً في مثلث الحضارة، إلا أنَّ أهميتهُ وقوته وصمودهُ تأني من العنصر الذي يسبقه – وهو (الإنسان) – لأنَّ فناءَ الإنسانِ يعني فناءَ المفهومِ العامِ لفكرةِ الوطنِ والحضارة؛ لأنَّ الإنسان هو الفاعلُ الأساس في المعادلة، والترابُ (المادة) والوقتُ هما أداتانِ لا أكثر، وهذا سبب منطقي – لديّ – لصمود الأوطانِ في وجه كل هذا الطغيانِ المتوارثِ والمتراكمِ في أحقادِ البشرية المستبدة؛ لأنَّ الإنسان دائم الحركةِ، دائمُ الشغفِ، ودائمُ البحثِ عن سببِ وجودهِ وغايتهِ، فيدفعُ بالأدواتِ وديمومتها بقاءَ غايتهِ وعدمِ فنائها.
والسؤال اليتيم الذي يحتاج لإجابة هو: لم كلّ هذا الصراع في بشريتنا حولَ الأدواتِ، متناسينَ في عقولنا وتطورنا الغايةَ الأهمَ: (الوطنُ الغايةُ) والمعنى الأعمق: (الإنسان كأولويةٍ مطلقة).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.