حين تقلب صفحات التاريخ الأوروبي منذ الإغريق والرومان ثم مجيء المسيحية إلى غاية العصور الوسطى، فعصر التنوير ثم النهضة الأوروبية إلى يوم الناس هذا، ستجد أن لكل مرحلة خصوصيات وأسباباً مقنعة وفاصلة جعلت منها إما مرحلة نيرة أو مظلمة، أي بصريح العبارة أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي علاقة منطقية لأبعد حدود، فسيطرة الكنيسة في العصور الوسطى جعلتهم يتخلّفون، وثورتهم عليها في عصر التنوير جعلتهم يخطون خطوات معتبرة ليس في الاقتصاد والسياسة فقط، بل حتى في تكوين الذات الأوروبية القادرة على تحريك عجلة التنمية للأمام، بل والأكثر من ذلك تسليم المشعل للأجيال اللاحقة في الوقت المناسب.
فلا تجد وأنت تقرأ تاريخ أوروبا قديماً وحديثاً تشابهاً في خصوصيات ومميزات عصور متباعدة، حتى وإن وجدتها فستجدها مؤكداً في الجانب الإيجابي.
الأمر الذي يهمنا نحن كعرب أو كساكني هذه الرقعات الجغرافية التي يطلق عليها اليوم العالم العربي، هو التالي: ماذا إذا طبقنا نفس المنهج الأول على تاريخنا كعرب أو كأقوام نقطن هذه الأقطار؟ كم عصراً منحطاً عايشنا؟ وما هو أقصى عصورنا ظلمة؟ وما هو العصر الذي بلغنا فيه ذروة التطور فكراً وأدباً وسياسةً ووعياً؟
فإذا كانت الحضارة الأوروبية بدأت من القمة إذا اعتبرنا أن أول ما دوّنه المؤرخون في كتب التاريخ هو الحديث عن الإغريق واليونان القدماء الذين وصلوا لقمة المعرفة والتفكير، ولعل فضلهم كبير جداً اليوم على العالم بأسره، وليس أوروبا فقط، فإن الحضارة العربية بدأت بلا شيء، كانت مجرد قبائل تسكن تلك الصحاري القاحلة لا يعرفون سوى التجارة، أو قرض الشعر أو قطع الطريق على القوافل، يتخلل كل هذا المظاهر حروب تدوم لسنوات بين هذه القبائل، بسبب ناقة قُتلت، أو سباق خيل بين فرسان القبائل.
في خضم كل هذه العبثية، يبدو أن الله أشفق علينا وأراد إخراجنا من سذاجتنا، فبعث لنا بنبي لم يبلغ أحد من الأنبياء مقامه، فهو الذي قدم الله عن طريقه أعظم كتاب عرفته البشرية، ولن تعرف مثله مهما طال الزمان، كتاب يلخص معنى الحياة، من كل جوانبها، سياسة، اجتماع، اقتصاد… نظم قوانين، أخلاق، عادات، تقاليد.. وكل ما لم يخطر لإنسان أن يجده في كتاب واحد.
إذن جمع محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- شمْلَ هذه القبائل المتناثر على امتداد تلك الصحاري، وكوّن منهم دولة لها أسس ونظم لم تشهدها من قبل، لا أثينا ولا روما ولا بابل، وتركها من بعده على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فبدأت هذه الدولة تتوسع وتكبر حتى بلغت أقصى امتدادها، في العصر العباسي، قبل أن ينهار هذا على يد قطاع طرق وهمج لا تعرف قلوبهم للرحمة طريقاً.
ومن هنا تبدأ مأساتنا يا سادة، وكأن فوانيسنا التي كنا نضيء بها طرقنا قد أخذها المغول والتتار دون رجعة، ومنذ ذلك الوقت ما زلنا نتجول تيهاً في دهاليز التاريخ والأمم الأخرى.
سيقول كثيرون: لقد عدنا واستفقنا وامتدت دولتنا ثانية من حدود الصين إلى المحيط، لكن على حساب ماذا؟ على حساب فكر وعلم قضينا القرون نجمعه ذهب أدراج الرياح، فقد دفعنا ثمن ذلك علمنا أولاً، وحريتنا ثانياً، فما لبثنا أن استفقنا من حلمنا، واسترجعنا أنفاسنا حتى وجدنا سلطتنا ليست بأيدينا ثانية.
دعوني أقفز بكم إلى ما سمّوه ما بعد الكولونيالية أو ما بعد الحداثة كما يحب بعض المتثاقفين تسميته، وإن كان حرياً بهم تسميته ما بعد الكولونيالية المباشرة، ودخول مرحلة الكولونيالية غير المباشرة، تلك المرحلة التي كانت شعوبنا تمنّي نفسها ببناء دول حقيقية وفق متطلبات العصر، دول مؤسسات لا تزول بزوال الرجال؛ لتكتشف بعد أقل من عقد أن تلك القوى الكولونيالية لم تفعل شيئاً إلا أنها عادت لبلدانها وشرعت في تحريكنا من هناك كالدمى وعرائس الكراكوز، بواسطة جهاز تحكم عن بُعد لم ولن تنفد بطاريته أبداً، حتى وإن نفدت فستعيد شحنها ثانية لتكتشف شعوبنا أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا عند العرب يا ابن خلدون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.