مدفوعاً بحب الاستطلاع وبإعجابي بانتشار ظاهرة نوادي الكتب في العاصمة الأردنية خلال زيارتي لها قبل سنوات قليلة، لم أتردد في تلبية دعوة صديق لحضور مناقشة عمل روائي هو "ثلاثية غرناطة" للكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، ضمن أنشطة نادي "انكتاب" للقراءة.
العثور على القاعة المخصصة للحدث لم يكن سهلاً، فقد اختار المُنظِّمون له مكاناً غير مألوف في جبل عمّان، لكنني تمكّنت مع ذلك من الوصول مبكراً.
دخلت الفضاء المظلم الواسع الذي تبعثرت فيه الطاولات والكراسي، ووجدت عدداً قليلاً من الشباب يتحدثون فيما بينهم، بدا وجه أحدهم مألوفاً، تذكّرت سريعاً أنه مَن أدار الحوار خلال ندوة كنت قد حضرتها مع الباحث والأديب المصري الدكتور يوسف زيدان على هامش معرض الكتاب، توجّهت إليه طالباً الإذن لحضور المناقشة؛ لكوني طارئاً على النادي وأعضائه، فرحّب بي بكل ودّ ودعاني إلى اتخاذ مقعد في دائرة من الكراسي ما لبثَت أن امتلأَت بالحضور.
أول ما لفت نظري كان عدد الفتيات والسيدات المحجّبات اللاتي شكّلن غالبية النساء الموجودات في القاعة، لمحت أيضاً بعض الرجال من أصحاب اللّحى، وإن صعب عليّ معرفة إن كان مظهرهم دليل التزام ديني أم مجرد مواكبة لموضة شاعت بين الذكور منذ سنوات.. شكّل ذهني عبارة راح يردّدها بإلحاح هي انكتاب: انعكاس لمشهد مجتمعي!
على الرغم من كون الرواية المخصّصة للنقاش تاريخية بامتياز، تدور حول انهيار حكم العرب في الأندلس، جنح الحضور إلى إسقاط أحداثها على مجريات العصر الراهن وربطوها بمحنة أبناء فلسطين من مهاجرين ولاجئين ومقيمين في الداخل… المقاربة بدت لي صحية ومبرّرة، ولا أظنها كانت غائبة عن ذهن عاشور وهي ترسم مسارات شخوص عملها.
"فلسطين ليست هي الغاية!"
صدمتني مقولة الفتاة المحجّبة التي كانت تجلس بالقرب منّي، طلب المشاركون في الحوار أن ترفع صوتها قليلاً وتوضّح مقصدها، وقفت فانتبهت إلى نقش الحناء الداكن الظاهر على كفّها والذي بدا لي كثعبان التفّ على ذراعها، وتسلّل برأسه من تحت أكمام جلبابها الأخضر مستكشفاً.
"أنا فلسطينية كما تعلمون، لكنني مسلمة ملتزمة بديني، ولذلك فتحرير القدس من الاغتصاب هو أولوية بالنسبة لي، المسجد الأقصى أيها الإخوة هو أكثر الأماكن قدسية على وجه الأرض مع الكعبة، ألم تقرأوا الحديث الشريف عن أن جبريل -عليه السلام- قد بناهما معاً في وقت واحد؟".
لم أكن قد سمعت ذلك الحديث من قبل، لكن الحكم التعسفي الذي صدر عن شابة متعلّمة ومهتمة بالأدب بالشطب على معاناة الإنسان الفلسطيني وحقه المشروع في العيش الكريم الآمِن على أرضه لصالح قدسية مزعومة لأحجار عتيقة أحزنني وأربكني… أوشكت على طلب الحديث ومشاركة الحضور تفاصيل بحث باللغة الإنكليزية كنت قد اطلعت عليه خلال تأليفي لكتابي الأول عمّا ورد في سورة الإسراء، خلص صاحبه إلى الاستنتاج بأن "المسجد الأقصى" المذكور في الآية هو كناية عن يثرب أو "المدينة" التي هاجر النبي محمد إليها فراراً من ظلم أهل مكة واضطهادهم له ولصحبه، لا المسجد الذي بُني بعد وفاته وفتح بيت المقدس بعقود، لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة وآثرت الصمت والإصغاء، فلم أجد من اللائق أن أستفزّ أعضاء "انكتاب" بطرح "مارق" وأنا ضيفهم الغريب.
أثلج صدري انبراء عدد من الحضور بالقول إن اتخاذ الدين مرجعية ومصدر شرعية لقضية فلسطين قد ألحق بها وبأهلها ضرراً فادحاً عبر العقود وحان الوقت كي يتوقف، كما أثار إعجابي أن اختلاف آراء المتناقشين لم يفسد للودّ قضية، وانفضّت جلستهم دون خسائر أو شجار أو شتائم متبادلة، كما يحدث في عدد غير قليل من حوارات العرب هذه الأيام، للأسف.
استرجعت وقائع تلك الأمسية وما دار فيها عندما عثرت على الإنترنت على تسجيلات لأحاديث متلفزة مع د. يوسف زيدان، أثار في أحدها موضوع الأقصى المذكور في القرآن وأورد دلائل تفنّد الاعتقاد الشائع بأنه المسجد المعروف في القدس، كما قام في لقاء آخر بكسر هالة البطولة التي أُسبِغت عبر العقود السابقة على شخصية تاريخية بارزة هي صلاح الدين الأيوبي… جرأة زيدان على هزّ القناعات الراسخة لدى العوام وكسر محرمات النقاش أثارت عاصفة عاتية من الاستنكار في الشارعين العربي والمصري، وجرّت عليه هجوماً غير مسبوق وسيلاً من اللعنات، ليس فقط من قِبَل الكهنة وأصحاب العقول المتحجّرة، بل أيضاً من رموز ثقافية مرموقة من الوسط وحتى اليسار، استفزها انتقاده الصريح للتجربة الناصرية في مصر، فقرّرت تصفية حسابها معه بالاصطفاف مع عدوها التقليدي (اليمين) حتى وإن ناقضت بذلك شعاراتها الرنّانة الداعية إلى التحرّر وكسر الجمود.
لا أزعم بأنني أوافق يوسف زيدان في كل ما ذهب إليه، فلي تحفّظات ومآخذ على بعض طروحاته كتحليله لشخصية أسامة بن لادن، على سبيل المثال لا الحصر، لكنني أكبرت في الرجل قوله بأنه لا يدعو الناس إلى أخذ آرائه كمسلّمات فهو ليس بنبي ذي نص مُنزل من السماء، بل باحث يحثّ قومه على الاطلاع على وجهات نظر مخالفة لما جُبلوا عليه ويحضّهم على التفكير والنقاش والاجتهاد.
استوقفني ذلك الأمر تحديداً، وأثار في داخلي تساؤلات عدة عن الدور المنوط بالمعاهد والجامعات المنتشرة على طول وعرض العالمين العربي والإسلامي، والتي يتخرّج الآلاف منها في كل عام، حاملين شهادات البكالوريوس في الدراسات والعلوم الإنسانية، فيما يحصل عدد أقل على شهادات الماجستير والدكتوراه بعد تقديمهم لبحوث يفترض بها أن تكون أصيلة، يتم بموجبها منحهم صفة وسلطة الأستاذية، لكن، هل هذا حاصل فعلاً على أرض الواقع؟ الإجابة الصارخة الموجعة على هذا السؤال هي: كلا، بل العكس هو الصحيح!
منذ سنوات عدة، وبعد استشراء أعمال العنف والهجمات الإرهابية التي استهدفت مدن الغرب والشرق باسم الجهاد في سبيل الإسلام ومحاربة الكافرين، وتحت ضغوط متزايدة من المجتمع الدولي، أعلن عدد من قادة الدول الاسلامية ومؤسساتها الدينية بدء حملات للتصحيح و"تحديث الخطاب الديني" كسبيل أوحد لمواجهة الفكر الأصولي المتطرّف… تم التطبيل والترويج لتلك الحملات المزعومة على نطاق واسع دون أن يجد المراقب أثراً ملموساً لها في الشارع العربي والإسلامي أو تطبيقاً عملياً، فعناوين الأخبار ما فتئت تطالعنا بين الفينة والأخرى بدعوات مرفوعة في المحاكم لحرمان أصحاب الفكر الحر والتنويري من منابرهم، وفي أحيان كثيرة، الزج بهم في غياهب السجون بتهمة ازدراء الأديان وإثارة الفتن مثلما حدث مع الباحث المصري إسلام البحيري، كما جرت تصفيات جسدية لمن تجرأ على إزعاج "الإسلامويين" كالكاتب الصحفي ناهض حتّر في الأردن الذي لا يزال اغتياله ماثلاً في الأذهان.
المشكلة عندنا أن الكثيرين يجهلون أصل ومعنى تسميات مثل "الماجستير" و"الدكتوراه"، لا يدركون أن حمَلة تلك الدرجات الأكاديمية المرموقة هم (أو يفترض بهم أن يكونوا) أساتذة في الفلسفة، وبأن الأخيرة تعني حرفياً حب المعرفة التي يقوم تحصيلها على نظام صارم من البحث والتمحيص والجدل والتشكيك وإعمال العقل والمنطق في الأدلة ورفض كل ما يعارضهما، حتى وإن كان مقدساً.
الجامعات في الغرب تعتمد ذلك النهج وتحرص عليه، بما في ذلك العديد من الجامعات المسيحية التي تضمّ صفوف الدارسين فيها ملحدين ومشكّكين وأتباع ملل وديانات أخرى، تتيح لهم مناقشة أطروحاتهم التي قد تناقض رواسخ العقيدة الكنسية ونشرها فتصبح في متناول سائر الباحثين والمهتمين، بلا حَجْر أو مصادرة أو اتهامات بالولاء للماسونية أو العمالة للصهيونية، كما حدث وما زال يحدث مع يوسف زيدان.
ترفع جامعاتنا شعار البحث العلمي عالياً، هذا صحيح، لكنها تملك في حقيقة الأمر قناعات وثوابت لا تسمح للباحثين بالاقتراب منها سوى في حالة واحدة، هي الإذعان المطلق لها والتسليم بصحّتها، الأمر الذي يجعل من عملية البحث عبثاً لا طائل منه وهدراً كارثياً للموارد الهائلة المستثمرة فيها، فهل نعجب بعد ذلك عندما نجد غالبية خرّيجينا عديمي النفع لمجتمعاتهم، بل هم عبء ثقيل عليها ومعطّلون لحركتها وتقدّمها.
كيف نستطيع معالجة ماء خالطه أسن دون أن نقرب منه أو نحرّك سطحه؟ وماذا ستكون نتيجة ذلك سوى أن يفسد الماء بأجمعه حتى ينفر الشاربون منه ويهجرونه تماماً؟
أحترم الدكتور زيدان؛ لأنه أخذ على عاتقه تحريك ما ركد وتسليط الضوء على خلل عظيم في فكرنا وعفن مستشر في كثير من مؤسساتنا التعليمية والإعلامية التي ترفض المسّ بالمعتاد والشائع والمتداول.
أحترمه؛ لأنه لم يتقاعس أو يتخاذل عن أداء الدور المنوط به كباحث أكاديمي، وقبل ذلك واجبه كإنسان معاصر يقظ الضمير وفاعل في مجتمعه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.