قبل سنوات تفاجأت بوجود أعداد غفيرة من طلاب المدرسة يجوبون الجامعة ومقصفها ذهابًا وإيابًا، لفتتني ضجتهم العارمة في الأرجاء وسألت زميلتي: هل هم في رحلة مدرسية؟ ماذا يحصل هنا بحق السماء ليصنعوا لنا كل هذه الأزمة؟
قالت لي: على ما أظن إن هذه الفترة التعريفية بجامعة الأطفال ربما لاحظتِ اللافتات هنا وهناك.
أخذت أتفكر قليلًا ثم قلت: فعلًا انتبهت ولكن توقعت أنها فعالية تنتهي في يومها، في ذلك الوقت لم يكن لتهمني التفاصيل بالقدر الذي اهتممت به عندما دخل ابني المدرسة وجاء معه بطاقة دعوة للانضمام إلى جامعة الأطفال في جامعة هايدلبرغ المعروفة بـ Kinder Uni
لنتأمل هنا كيف تسعى الدول المتقدمة إلى تربية الأطفال على العلم، وتحضيرهم لاختيار طريقهم العلمي شغفًا وليس دفعًا، بالإرادة وليس تقليدًا لهذا وذاك، فقد تجد طفلًا من الطبيعي أن يقول لك لا أفكر في أن ألتحق بالجامعة بل سألتحق بالمعهد المهني فطريقه إلى سوق العمل أقصر، كما أنه مطلوب أكثر من الدراسة الأكاديمية.
وقد تستغرب سؤالي لابنة جيران لنا اسمها كريستينا كانت متفوقة في مدرستها بتقدير علامات ممتاز تهيؤها لدخول كلية الطب، ولكن عندما سألتها خلال تحضيرها لامتحانات التوجيهي إن كانت ستدرس الطب، نظرت إلى مستغربة وقالت: لا أفكر أبدًا بالطب.
بالنسبة لي أريد أن أدخل المعهد المهني لدراسة تمريض كبار السن، وخلال العمل سأوفر بعض المال وقد أكمل لاحقًا في الجامعة تخصص معلم صف، فمهنة التعليم ممتعة ومطلوبة ومتناسبة مع الحياة العائلية عندما أقرر أن أكون عائلة.
هذا التفكير الذي تجده في عقول طلاب المدارس الألمان ليس من صنع أهاليهم ولا من خلال عادات وتقاليد المجتمع، بل هو صناعة التعليم الذي يوجه الطلاب في المراحل الأساسية إلى معاهد التعليم ووضعهم أمام الواقع الحي، وتكوين صورة مستقبلية تراكمية تنشأ مع الطالب عمّ يكون به مستقبلًا بشكل مستقل.
لكن ما هي جامعة الأطفال وماذا يفعلون هناك؟
هو نشاط تعليمي، تنموي، اجتماعي وعلمي من قبل كليات ومعاهد الجامعة المختلفة هدفها وضع الجيل الجديد على طريق العلم بالشكل الصحيح وأيضًا تنمية مفهوم الابتكار وتحفيزيهم على طرح الأفكار والعمل عليها في مختلف المجالات.
كل كلية في الجامعة تطرح برنامج مميز على مدار العام ويتم توزيعه على المدارس واختيار الطلاب الشغوفين والمتفوقين لحضور محاضرات وورشات عمل، ويتحصل فيها الطلاب على شهادات ذات فائدة لمستقبلهم العلمي والأكاديمي.
أما التسجيل يتم من خلال طلب تتطرحه الجامعة إلكترونيًا أو من خلال طلبات يتم توزيعها في المدارس، وفيها يختار الطالب المساقات التي يرغب في حضورها من منطلق اهتمامه بها، ويكتب بسطور بسيطة لماذا اختار هذه الورشات والمحاضرات وما هي توقعاته للفائدة التي يتمناها.
وهنا لدى الطالب مساقات متنوعة مثل علم الرياضيات وبرمجة الرجال الآلية، والعلوم النفسية والتربوية، علم الآثار، العلوم الطبيعية، الفيزياء وعلم الفلك واللغات الحية وإدارة المشاريع والأعمال…إلخ.
يتم عقد ورشات العمل خلال العطل المدرسية ونهاية الأسبوع، وأحيانًا بعد الدوام المدرسي ولكن البرنامج خفيف ولا يثقل على كاهل الطالب بل ينتظر وقت الدوام بكل شغف.
هل التسجيل في هذه الورشات والبرامج مكلف؟
ببساطة التسجيل والحضور مجاني، لأن الجامعة تقوم بدعم هذه النشاطات وتمويلها ويعمل كوادرها خلال هذه البرامج بشكل تطوعي، وهنا أركز على أهمية مفهوم التطوع في تعليم طلاب المدارس الشغوفين، وقد خضت لمدة سنتين هذه التجربة في تعليم عملي لمبادئ الأحياء الجزيئية، حيث كان البرنامج يعقد يومي نهاية الأسبوع ( السبت والأحد ) من الساعة التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً مع عدة استراحات وكنت مع زملائي نقوم بهذا العمل بشكل تطوعي، والمقابل هو الخبرة وحجم السعادة التي كنا نراها في عيون هؤلاء الأطفال.
هل يحضر طلاب المدارس هذه النشاطات فعلًا!
من المحاضرات الشائقة التي ستعقدها جامعة الأطفال في هايدلبرغ خلال شهر حزيران، محاضرة بعنوان: نحو البحث عن أرض جديدة؟ مدة المحاضرة ساعتان ويقدمها بروفيسور مخضرم من معهد ماكس بلانك لعلوم الفضاء، وهناك ورشة عمل مميزة أيضًا يتعرف فيها الطلاب على أهمية استخدام الحاسوب في فهم عمل خلايا جسم الإنسان، وستقدم هذه الورشة البروفيسورة الأهم في علم البرمجة الحيوية في جامعة هايدلبرغ.
وأخيرًا، أتمنى لو تقام مثل هذه الفعاليات في جامعات البلاد العربية، وتكون دائمة ذات برامج وأهداف محددة، وأن تكون متاحة للجميع ومجانية ويشارك فيها الطواقم التعليمية المخضرمة بكل شغف وحب، من أجل إخراج جيل جديد شغوف بمنهجية العلم وقادر على اختيار ميوله وبناء مستقبله ومستقبل بلده بدون أي مؤثرات.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع زدني