(١)
هي أم لطفلتين، قرة عين الأسرة، تحرص كل الحرص على ألا تسمعا شجارها الدائم مع والدهما لأنه لا يصرف فى البيت قرشاً واحداً، وما توفره هي من مرتبها تستطيع أن تسد به رمق الصغيرتين، مرت أيام، بل شهور، وفي الأغلب ٣ سنوات من عمر الطفلتين التوأم بدون أن تجلب لنفسها قميصاً جديداً، تترك الفتيات لدى أمها في الصباح الباكر لتخرج للعمل، لأنها لا تقدر على مصاريف الحضانة، ولا تستطيع البقاء بالمنزل لرعايتهما لأنها ببساطة لن تجد ما تضعه على المائدة.
تحكي لي ويبدو على ملامحها أنها تتذوق مرار الكلام كأنما ترى المشاهد بعينها، إنها حاولت مراراً أن تطلب الطلاق، فكان من حولها ينصحها بآلا تخرب البيت بيدها، فتسأل وإلى متى أتحمل، فيجيبونها بإجابات معزية تحوي في طياتها دعوات للصبر والسلوان بدون إيجاد حل حقيقي، تقسم لي أنها حاولت أن تتحمل فعلاً، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير ظهرت يوم مرض إحدى الصغيرتين، لوجي، حيث ارتفعت حرارتها بشكل كبير، بينما كانت تضع لها الكمادات، كان يجلس أمامها يشاهد التلفاز، فتخبره أن البنت في حالة خطِرة ويجب أن تزور الطبيب حالاً، فيهاتف أحد أصدقائه الأطباء لكنه لا يرد، فيقترح أن يذهبا بها إلى مستوصف قريب حيث الكشف بعشرة جنيهات، لتصرخ فيه "البنت حرارتها ٤٠ وترغب في إدخالها مستوصفاً قد يتسبب في أن تلتقط عدوى ما، لديك من المال ما يكفي لإحضار طبيب للمنزل لكنك لا تتحرك"، فيتجاهلها كلياً، لتأخذ فتاتيها وتذهب بهما لوالدتها، طالبةً الطلاق، غير عابئة بالكلام عن الصبر والسلوان.
"من يومها وأنا شبه البيت الوقف.. معلقة لا مطلقة، هو لا يريد تطليقي والقانون لا يمنحني حريتي لطول النظر في القضية المستمرة إلى الآن ٨ أشهر، نصحتني مجاميتي بالخلع، لكن هذا يعني أن أبريه كلياً من حقوقي وحقوق بناتي اللاتي لم يدفع لهن قرشاً واحداً، وهما على وشك الدخول للمدارس والبدء برحلة تعليمية باهظة الثمن، من أين لي أن أتحملها وحدي، ولذلك باقية أنا من وقتها معلقة، علَّ القانون ينصفني، أو يجد لي الله مخرجاً آخر".
(٢)
تحكي بابتسامة مرة "أنا كنت معلقة لثلاث سنوات كاملة"، لأفغر فاهي ولا أعرف كيف أرد، فتقول "لا تستغربي يا عزيزتي.. ثمة الكثيرات مثلي ومنهن من ظلت معلقة لسنين طويلة، فأن تحصلي على حكم بالطلاق في هذه الدولة كأن تحصلي على قطعة من المخدرات، بل إن المخدرات أصبحت أسهل في تداولها".
بدأت القصة بعد شهر العسل مباشرةً، لترى "م" إن زوجها الذي أحبت قد استحال وحشاً يضربها بكل مهانة لم تتحملها، ولم يشفع تدخل الأهل في توقفها، خصوصاً وإنها كانت تعيش ببيت عيلة، فكان الضرب يتم تحت سمع وبصر أم الزوج وأخته، ولا يتحرك أحدهم ساكناً، أو حتى ينبس ببنت شفاه.
"كانت السحجات والتقرحات تنتشر في كل سنتي من جسدي، وعلى أقل تصرف قد يراه حضرته خاطئاً، طلبت الطلاق، فهددني قائلاً إن هذا أبعد من خيالي، وإنني لو فكرت مجرد تفكير في هذا سيطلبني في بيت الطاعة، أو يتركني كالبيت الوقف، أي معلقة."
"رفعت القضية للنظر أمام المحكمة، وظللت معلقة لثلاث سنوات، مع إصراري لعدم الاتجاه للخلع لأحصل على حقوقي، حيث لي في شقة الزوجية متاع وأثاث وملابس ومشغولات ذهبية مُثبَت حقي فيها بخط يده، لكنه طردني بدون حتى أن أجمع ملابسي بحقيبة".
تقول "م" إنه في كل مرة كان يهددها بأنه سيتركها معلقة لا متزوجة ولا مطلقة كانت تشعر بخوف شديد، لكن بعد أن نفذ تهديده لم تجد فيه كل هذا القدر من الرعب الذي كانت تستشعره في البداية، أصبحت ترى أنها مجرد أداة يستخدمها الرجل للـ"تكدير" وللتهرُب من الواجبات المالية التي تتعلق به.
(٣)
لو أفردت هذه المقالة لحالات من النوع المماثل، لن تتسع، لأن مجتمعنا يمتلئ بهن، يغلي بغضبهن تحت الرماد الذي لا نرى سواه، وحقيقةً، لم أكن لأعرف بوجودهن لولا الصدفة البحتة التي جعلت "م" تحكي لي في ساعة صفا، لأنقب خلف الموضوع، ولأجد أنه ثمة العشرات في نفس الوضع، وضع البيت الوقف، أو المعلقة، حيث لا يطلقها زوجها ولا يعتبر نفسه زوجها من الأساس، ولكي تحصل على حقها في "التسريح بإحسان" عليها أن تلجأ للقانون، الذي لا ينصفها في أغلب الأحيان إلا بعد شهور وأحياناً سنين، فقط لكي تحصل على لقب مطلقة بحقوقها المادية.
لأنه برغم قدرة قانون الخلع على إيجاد حريتها لها إلا إنه يُبرئ الزوج من كل التزاماته المادية والأدبية، ورغم لجوء الكثيرات له هرباً من جحيم الزوجية إلا أنه في النهاية إجحاف شديد للمرأة في مجتمعنا، لأنه يساومها على حريتها، في حين أن قانون الطلاق يتيح للزوج التهرّب منه بكل سهولة، بتزييف أوراق تثبت دخله الحقيقي أو طلب الزوج لزوجته في بيت الطاعة أثناء رفعها للطلاق، والذي إذا لمتنفذه اُعتُبِرَت في حكم القانون ناشزاً، لا يحق لها الحصول على حقوقها الأدبية والمادية، بما يدفعها إلى ضرورة الامتثال مع شخص لا تريده ولا تحبه وفي الغالب يهينها ويهين كرامتها ويُكرهها على العيش معه، تحت مرأى ومسمع القانون بل وبإيجاز منه! فأي قانون هذا الذي لا يتفق مع الشرع القائم على "تسريحهن بإحسان".
أتمنى أن تخطفوا زيارة او اثنتين لمحكمة الأسرة في مصر، لتروا نماذج أكثر وجعاً وأشد تأثيراً بالقلوب، كلهن لا يرغبن سوى في العيش بكرامة، كرامة لا تمنحها لهن مؤسسات المجتمع المُشَبَعة بذكورية أفراده!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.