الماء أساسي للحياة، قال تعالى في سورة الأنبياء: ".. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ".
وقد أقرت هيئة الأمم المتحدة بحق حصول الفرد على المياه العذبة، وأخبرت بأن المياه العذبة تُديم حياة الإنسان، وأقرت بأن هناك ما يكفي كل شخص على الأرض من المياه العذبة، ولكن نظراً للاقتصاديات السيئة أو ضعف البنية التحتية، فإن الملايين من الناس (معظمهم من الأطفال) يموتون بسبب الأمراض المرتبطة بعدم كفاية إمدادات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية.
ونحن المصريين نحتاج إلى 115 متراً مكعباً لكي نحقق اكتفاء ذاتياً من احتياجاتنا الغذائية، ولكن ما يأتينا من مياه النيل هو 55 متراً مكعباً، وهو لا يكفي ما نحتاجه، ونحن نستورد 12 مليون طن من القمح سنوياً؛ فما هو حالنا بعد نقص حصتنا التاريخية من مياه النيل بعد استكمال بناء سد النهضة وتجفيف النيل؟
إن حصة المواطن المصري من المياه هي 700 متر مكعب سنوياً وهي أقل من (المعدل العالمي للفقر المائي) وهو 1000 متر مكعب سنويا، فضلاً عن بُعدنا عن معدل المتوسط العالمي البالغ 7000 متر مكعب، وطبعاً، لا أمل ولا في الأحلام لما تسمى بـ(الوفرة المائية).
وما هو حالنا حينما يشتغل سد النهضة وتمتلئ بحيرته بالماء تماما؟
ومصرنا الحبيبة في أزمة شديدة الآن بعد قلة منسوب مياه النيل منذ الصيف قبل الماضي، واعتراف نظام السيسي بوصول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود!
بداية الأزمة
في مايو/أيار 2010، وقّعت 4 دول من دول منابع النيل وهي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا في مدينة عنتيبي الأوغندية (اتفاقية عنتيبي) الشهيرة التي بمقتضاها سيعاد النظر في التوزيع العادل لمياه نهر النيل، وفي حصة مصر التاريخية في مياه النيل بموجب معاهدة 1929 واتفاقية 1959 والتي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب، وأيضاً في حصة السودان التاريخية وهي 18.5 مليار متر مكعب، وتتيح هذه الاتفاقية الجديدة بناء سدود على نهر النيل وفروعها في الدول التي يمر بها.
ولحقت باتفاقية عنتيبي كينيا وبوروندي، بينما اعترضت مصر والسودان وقاطعت تلك الاتفاقية.
وفي مارس/آذار 2011، استغلت إثيوبيا ثورة يناير/كانون الثاني والأحوال الداخلية غير المستقرة في مصر، وأعلنت عن شروعها في بناء سد النهضة وضاعفت سعته التخزينية من 14 ملياراً إلى 74 مليار متر مكعب؛ و(الطمع ليس له نهاية ولا حد؛ وليذهب الآخرون إلى العطش والجوع وحتى إلى الجحيم ذاته)!
وفي مايو/أيار 2014، تحصلت مصر على تقرير لجنة خبراء دوليين يؤكد أن إقامة سد النهضة بارتفاع 145 متراً وسعة تخزينية 74 مليار متر مكعب وتشغيله بشكل منفرد بدون مراعاة دول المصب، سيمكّن إثيوبيا من تحكمها التام في إيراد النيل الأزرق!
وفكرة سد النهضة أصلاً أميركية؛ حيث خطّط مكتب الاستصلاح الأميركي في الفترة من 1956 إلى 1964 لتخزين المياه في إثيوبيا وليس في مصر، وهنا صمم جمال عبد الناصر على بناء السد العالي الذي رفضت الولايات المتحدة الأميركية تمويله.
وقد هدّد الرئيس الراحل أنور السادات بضرب إثيوبيا لو شرعت في بناء سد ببحيرة تانا، ولوَّح المشير عبد الحليم أبو غزالة بمواجهة عسكرية مع دول حوض لو شرعوا في بناء سدود، والرئيس حسني مبارك تجاهل إفريقيا واستعلى عليها ورماها وراء ظهره، وخاصة بعد محاولة اغتياله الفاشلة في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا عام 1995، والرئيس محمد مرسي قد أعلنها صراحةً أن كل الخيارات مفتوحة لحفظ حصة المصريين من مياه النيل، أما الجيش المصري فلم يعلن موقفه حتى الآن، فمتى يعلن موقفه حفاظاً على شريان حياة المصريين؟!
وفي 3/7/2013، انقلب السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي، واستولى على كرسي الحكم، وأصبح رئيساً غير معترف به وخاصة من الاتحاد الإفريقي المعادي للانقلابات العسكرية، فماذا يصنع لكي يشتري الشرعية؟
1- اشترى أسلحة وطائرات وغواصات (لا داعي لها أصلاً) من فرنسا وروسيا وإنكلترا و.. وزادت طينة (الدين العام) بَّلة أو عدة بلات!
2- تنازل عن حصة مصر التاريخية بتوقيعه لاتفاقية مبادئ مع إثيوبيا والسودان في مارس/آذار 2015 بالخرطوم.
3- وقّع (صفقة القرن) المشبوهة مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والكيان الصهيوني؛ لكي ينهي قضية فلسطين ويعطي جزءاً من شمال سيناء للفلسطينيين. وتنازله لغاز المصريين في البحر المتوسط لإسرائيل!
4- تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية استرضاء لها بسبب دعمها لانقلابه المشؤوم في 3/7/2013، وأمام شوية دولارات، واعتقل وسحق المصريين المتظاهرين ضد هذا التنازل المخزي والمخالف لقرار المحكمة الإدارية العليا الذي ينص على مصرية الجزيرتين!
5- وبعدما بدأ اللغو يكثر حول أزمة سد النهضة، لم يقدم السيسي حلاً جذرياً لهذا اللغو سوى هتافه: للمصريين (أنا ضعيتكم من قبل علشان أضيعكم الآن)، ولم يخبرنا عن عدم المساس بحصتنا التاريخية من مياه النيل والتي لا تكفينا أصلاً بعدما وصل تعدادنا إلى مائة مليون نسمة، والحقيقة أنه قد (ضيعنا تماماً)!
والسيسي لو ضرب سد النهضة بصاروخ، لربما تحصل على الشرعية المفقودة، وربما يرفعه المصريون فوق الأعناق؛ لأنهم سيجدون فيه قائداً حريصاً على شريان حياتهم؛ وهذه أبسط وظيفة لقائد يقود بلداً وخاصة الآن بعد استقالة رئيس الوزراء الإثيوبي، هايلا مريام ديسالين، واضطراب أحوال إثيوبيا وفرض حالة الطوارئ، ولكن السيسي لن يفعلها.
اشتعال الأزمة
وصلت الأزمة إلى الذروة أو إلى طريق مسدود؛ حيث أصرت إثيوبيا على استكمال بناء سد النهضة (بشروطها هي) والتي سوف تضرب حصتنا التاريخية من مياه النيل في مقتل، وينتج عن هذا السد الكبير عجز شديد لتوفير مياه الري للشرب وللزراعة، وتعطيش المصريين، وتوقف السد العالي عن عمله، وبوار الأراضي الزراعية، ونعيق بوم الخراب في بر مصر كله!
ولقد اعترف الدكتور محمد عبد العاطي وزير الري بفشل هذه المفاوضات، وأكد وجوب مصارحة الشعب المصري بأننا في أزمة مياه شديدة، وأننا غير قادرين على التعامل مع هذه الأزمة سوى بتوفير مصادر أخرى للمياه وترشيد استهلاك المياه في الزراعة والشرب.
أما مشروع السيسي الكبير في استصلاح مليون ونصف المليون فدان فقد ذهب مع الريح!
حل المصريين المتوقع
وإذا قامت الحكومة بتحلية مياه الصرف الصحي، فهل هذا الماء آمن على الصحة؟ طبعاً، الإجابة بالنفي.
وإذا كانت تحلية مياه البحر مكلفة جداً، فليس أمام المصريين سوى أن يحصلوا على المياه إما بشراء المياه المعدنية وهذا سيقوم به قلة بسيطة من أغنياء المصريين، أما غالبية المصريين فليس أمامهم سوى أن يدقوا ماسورة أمام بيوتهم لاستخراج الماء من باطن الأرض، وهو حل بسيط ويقوم به المصريون منذ زمن بعيد ألا وهي (الطلمبة).
والقارئ الذي لا يعرف الطلمبة، فأخبره بأنها عبارة عن ماسورة تدق في الأرض لعدة أمتار وأعلاها يد يضغط بها الفلاح في الريف ليستخرج الماء للشرب، وهي موجودة في الريف بكثرة؛ نظراً لعدم توافر مياه الشرب الحكومية بالرغم من جريان النيل وفرعيه والترع المختلفة، والفلاح المقتدر مادياً يوصل الماسورة بموتور لرفع المياه، وسيفعل الشيء ذاته أصحاب الأبراج والعمارات الشاهقة، هذا إن كانت المياه الجوفية كافية؛ وسنعود إلى عصر (بيع الماء في القرب)، وأيضاً إلى عصر القرن السابع عشر باقتدار، وسيتغير قول المؤرخ اليوناني هيرودوت (مصر هبة النيل) إلى (مصر هبة الطلمبة)!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.