ذكرت في مقال سابق -أيها السادة- أن حياة كل واحد فيكم هي مجموع خياراته، التي اختارها بإرادته أو فُرضت عليه أو كانت أحد أقداره، ثم ربما أستطيع تشبيه النفس الداخلية للإنسان بالمملكة المضطربة، التي لا تكاد تخلو من الصراعات والتجاذبات والانتكاسات والانتصارات، لا أعتقد بوجود أحد على هذا الكوكب لم يعِش صراعاً داخلياً ما، حرباً بين خيارَين أو أكثر، معركة ضد المجاهيل، وربما استسلام، حتى الاستسلام في عمقه صراع، فهو تنازل للنفس أمام ذاتها.
ثم لنطرح السؤال التالي: هل الطبيعة تملك عقلاً؟ أقصد هل تعتقدون أن الطبيعة تفكر وتضع الخطط والاستراتيجيات، على سبيل المثال، هل تخطط الطبيعة صيفاً كيف سيكون شكلها في فصل الشتاء؟ وهل تحدد في خطتها ضمن جدول زمني متى سوف يهطل المطر وتهب الرياح وتنخفض درجة الحرارة، أو ربما تخطط لفصل الخريف القادم، وتحدد عدد الأوراق التي ستتساقط، أو كمية المياه التي ستتبخّر بفعل حرارة الصيف وربما تحدد عدد الزهور التي ستنبُت في الربيع!
أظننا متفقين على أن الطبيعة كشيء مجرد، لا تمتلك عقلاً أو مهارة تفكير ما أو حتى ذات، ولا تضع الخطط لشكل وجودها في الحياة، إنما هي تحتكم لقوانينها، قوانين الطبيعة، فلا تنحاز عنها ولا تخرقها بل تسير فيها بكل تناغم وانسجام. ثم لا داعي لمهارة الملاحظة حتى نستشف تناغم الطبيعة عندما يكون الإنسان بعيداً عندها، أي حينما يتركها على تلقائيتها.
أما الإنسان من حيث هو الجزء المؤثر والمتأثر في الطبيعة، فهو دائماً أمام خيارَين في خوض تجارب حياته: إما التلقائية، أو التخطيط للأحداث والتجارب التي قد يفكر بخوضها.
ربما تكون التلقائية، أي السباحة مع التيار والذوبان في الواقع والتحرك بالطريقة التي تدفعه بها الظروف ثم عدم التركيز على التفاصيل وعدم الاكتراث للأسباب ومن ثم النتائج بشدة، بل القناعة بكل ما توصله إليه التلقائية، ربما هذا بطريقة ما الخيار الأكثر سهولة أمام العقل، فهو يريحه من التفكير والتحليل ومن ثم التنبؤ.
على الرغم من ذلك تبدو الأمور التي تتركها تسير على تلقائيتها مجهولة النتائج، ولا يمكن التنبؤ بزمنها، لكنها مريحة، فحتى لو كانت النتائج غير مرضية، فهذا لن يؤثر على صاحبها؛ لأنه أساساً لم يبذل جهداً ما للوصول إلى تلك النتائج.
نعم قد تأخذ التلقائية غالباً فترات طويلة ومجهولة النهاية؛ لأنك ببساطة لم تضع لها خطة زمنية واضحة، بل تركت الأمور تسير كيفما تيسرت لها الأحوال من دون أن تؤثر عليها أنت وتدفعها باتجاه ما تريد، لا أقصد هنا الإهمال، بقدر ما أقصد الثقة بالشكل الذي ستهبك إياه الحياة، على قدر قناعتك، فحصتك من الماء دائماً تساوي سعة فمك.
لكن إن كنت تبتلع الماء في كل مرة يمتلئ بها فمك عندها لا أظنك من الأشخاص القنوعين، حينها لا بد أن تكون مخططاً من درجة ما.
ثم أنا لا أقصد أن تخطط لحياتك بالطريقة التقليدية، تخطط للحصول على شهادة جامعية، تخطط للبحث عن عمل جيد، تخطط للزواج .. إلخ، هذه أمور تقليدية وتلقائية رغم تفكيرك بها، إنما تبلغ درجة التخطيط عندما تبدأ بخلق الأحداث من خلال التركيز على التفاصيل وإدارتها بالطريقة التي تراها مناسبة لتحقيق غايتك، ثم تفكيك كل تجربة تمر بها مهما كانت بسيطة تحللها وتضع لها الخطوات التي لا بد من ممارستها برأيك لتتوّج بالنتيجة التي تعتقد أنك ستحققها إن سلكت خارطة الطريق التي وضعتها، وقد تتداخل خططك ضمن استراتيجية، بما أنك تخطط لأغلب أحداث حياتك، فتتداخل خيوطك ببعضها وتقوم بربط خياراتك بشبكة ضمن رؤية معقدة نوعاً ما، ثم تبدأ بعد فترة بالتخطيط للتخطيط.
فعندما يعتاد الدماغ على هذا الأسلوب لن يترك لك شيئاً يمر بتلقائية، لا بد من تحسسه وإدراجه في مكان ما ضمن لوحتك الكبيرة، قد يكون من قال: "إن لم يكن لديك مخطط فأنت ضمن مخططات الآخرين" محقاً، فالذين يمارسون الحياة بتلقائية هم غالباً ضمن مخططات الذين يمارسون الحياة باستراتيجية معينة.
أما بعد هذا كله، فهناك آخر الاحتمالات، وهو أن يستيقظ الشخص الذي يعارض التلقائية ويتباهى بمخططاته، يستيقظ ليرى نفسه جندياً في جيش كامل وجميع خططه التي وضعها تسير ضمن الخطة الشاملة التي أقرتها قيادة الجيش، فخُططه ما كانت إلا تلقائية ما للمخطط الكبير، أعتقد أنها نقطة الجنون أيها السادة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.