الحياة بين قوسين

إن حب التملُّك المَرَضي يجعلنا نعمى عن إبصار جوهر الأشياء والهدف من وجودها، وخوفنا الهوسي بفقدانها يجعلنا نسجن أنفسنا معها، فلا نخرج ولا نجازف بعيش الحياة كما هي، بجوهرها وتفاصيلها، بكلها وجزئياتها.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/04 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/04 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش

نسمع كثيراً عن تسمم الأطفال بسبب شرب بعض المواد الكيميائية الموجودة في المنازل (مواد التنظيف، حمض الكلوريدريك…)، بالمغرب وربما في بعض البلدان العربية الأخرى، تُخزَّن عادةً هذه المواد بالمطبخ، وبالتحديد في الدرج الأسفل وبلا قفل، حيث يمكن للطفل أن يصل إليها بسهولة.

هذا الطفل الذي يدخل المطبخ وهو يتصوره مغارة علي بابا، فيبحث عن أثمن ما فيه، وخاصةً تلك الحلويات الشهية التي لا تظهر إلا في المناسبات الخاصة، لكن ما لا يعرفه الطفل المسكين أنها مخبأة بحرصٍ بعيداً تحت السرير في غرفة النوم أو أحد الأدراج المغلقة.

هنا أود أن أسأل الأمهات: هل كيلوغرام من الحلوى أهم من سلامة أبنائكم؟! كيف تخفون ما يلذذ الحياة ويحلّيها وتبيحون ما يدمر الحياة وينهيها؟!

هذا يذكرني بمفارقة أخرى نجدها في بيوتنا؛ وهي غرفة الضيوف، تلك الغرفة التي نصرف عليها المال الكثير، ونبذل في ترتيبها الجهد الكبير، ثم لا نقربها ولا ندخلها، ولو كنا في ضيق؛ ذلك من أجل ضيف لا ندري متى يأتي إن كان سيأتي، والمشكل الأكبر هو أنه حتى هذا الضيف نستكثرها عليه، فبعد مغادرته تبدأ تعليقات ربَّات البيوت :"لقد أفسدوا ترتيب الغرفة"، "لقد وسخ أطفالهم السجاد".

الحقيقة أننا نكذب على أنفسنا بادعاء الحفاظ على شيء من أجل الآخر، فأنانيتنا المفرطة تولِّد حب تملُّكٍ متوحشٍ يجعلنا نرتبط بأشياء مادية ونسعى للمحافظة عليها بشدة، لدرجة أن نحرم أنفسنا من التمتع بها وتقاسمها مع من نحب، فنعيش في خوف من ضياعها وحذرٍ من فقدانها، وللأسف تنتهي أعمارنا، وتبقى هي بَعدنا سنوات أو ربما قروناً.

وقد ينتقل هذا الحرص من الأشياء المادية كالأثاث والمجوهرات والمال… إلى أشياء حسية؛ كأن نغلق قلوبنا مثلاً ونحرم عليها الحب، مدّعين أننا نحفظها لمن يستحقها، والحقيقة أننا نريدها أن تبقى لنا فنخاف عليها الألم والانكسار، فنضيِّع لذة الحب وإحساس الضياع وحرقة الشوق ولهفة اللقاء ورهفة الفؤاد وجراح الفراق.

نمنعها أن تتفتح وأن تكبر، ونمنع أنفسنا من تذوق كل هذه الأحاسيس وعيشها، وإن كان فيها حزن وألم، فهي ما يجعل الإنسان إنساناً، فالحياة ليست جنة كاملة كلها لذّات، وليست جهنم حارقة كلها عذاب، والسيئ هو عندما نقرر فتح القلب، نجدنا قد أضعنا مفتاحه، وأن بابه قد صدئ كمن أحب قميصاً فخبَّأه لمناسبةٍ جديرةٍ، فتتوالى المناسبات وهو يكنزه خوفاً عليه، ويوم تأتي المناسبة الموعودة يجد أن مقاسه لم يعد مناسباً.

إن حب التملُّك المَرَضي يجعلنا نعمى عن إبصار جوهر الأشياء والهدف من وجودها، وخوفنا الهوسي بفقدانها يجعلنا نسجن أنفسنا معها، فلا نخرج ولا نجازف بعيش الحياة كما هي، بجوهرها وتفاصيلها، بكلها وجزئياتها.

يجب أن نبتعد عن كل التعاريف والقوالب الجاهزة الموضوعة لكُسَلاء الفكر، ونعيد صياغة تصوُّرنا عن الأشياء ولقيمتها وأهميتها ودورها، وأيضاً تحديد المعنى الحقيقي للحياة، والمتعة والسعادة، والألم والحزن، ولوجودنا في هذا الكون، ففي النهاية سنجد أنفسنا أزلنا العديد من النظارات السميكة التي تعيق رؤيتنا للجمال المحيط بنا، وسنتحرر من قيود تغلُّلنا وتمنُّعنا من الانطلاق والاكتشاف والتحدي.

سنكتشف أيضاً أننا نملك ما نريد، أو على الأقل ما يلزمنا لننطلق ونصل لما نريد، وأننا سنستمتع أكثر في الطريق لتحقيق الأهداف من لحظة الوصول إليها وتحقيقها، وهكذا سنبقى في استمتاع دائم ونحن مستمرون في الطموح والتقدم، فكما يقال: متعة السفر أهم من هدف السفر.

لقد اخترعنا القوسين لنحاصر الأشياء الثانوية ونركز على المهم، لكننا أصبحنا نعيش بين قوسين وتركنا المهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد