أتذكّرُ جيداً عندما كنت جنيناً في بطن أمي، كتلة صغيرة من روح ولحم، تتأهبُ لاستقبال عالمٍ جديد، تسعة أشهر قضتْهَا أمي في تعبٍ وقضيتها أنا في أكلٍ وشربٍ واسترخاء، كنتُ في عالم مختلف تماماً عن عالمنا المضطرب، رغم أنه ضيّقٌ من حيث الفضاء، إلا أنه المكان الآمَن الذي لا يُضاهي في أمنهِ وهدوئهِ مكاناً، كنتُ أتقلَّبُ يميناً ويساراً بحرية تامةٍ لا أعبأ إن كان ذلك يُؤذي أمي أم لا، أتجوّلُ كما يحلو لي، أجلس، أنهض، أقف، أفعل كل شيء، لا أخشى ظلام المكان ولا أشكو شدّته ووحشته.
لقد شاءتِ الأقدار أن نأتيَ من مكانٍ ضيّق لنعود إليه بعد انقضاءِ العمر، وبين المنزلتين فضاءٌ رحبٌ ممتدٌّ إلى حدّ النظر، وحياةٌ مسهبة، قد نشكو فيهما من زَخَم الحياة وهمومها، الكلّ يحمل ذكريات ذاك المكان المهيب، وتلك الفترة الممتدّة لشهورٍ معدودة، لكنّنا لا نُعيرها اهتماماً وإن كانت فعلاً حياة، بكل تقاسيمها، رُسمت فيها شخصيتنا، وعُلّمت معالمها، وتذوّقنا فيها أول طعمٍ للوجود، ولو جلسنا مع أنفسنا الآن وأطلقنا العنانَ لمخيّلاتنا لتذكّرنا سيمفونيتها نغمةً بنغمة.
كانت حياتي مرتبطة بنظامٍ مُحكمٍ دقيق، إن حدثَ فيه أيُّ خللٍ بسيطٍ معنى ذلك أن الحياة انتهتْ بالنسبة لي، كنتُ أعيش في راحة بال وطمأنينة، أتقلّب في ماءٍ بلّوري، أتنفّس بعُمقِ رئتي، لا أحملُ همّ الغد لأنّني غير مسؤول عما أنا فيه، ولا على ما يجري من حولي، ولا على ما يربطني بعقدةِ الحياة من حبلٍ رفيع.
كنت أسمعُ مراراً أصوات الأنين في الخارج، ألتقطُ تنهيدات الآهات وهي تصرخُ من فراقٍ وفُقدان، أعلمُ علمَ اليقين أنّ ما وراء الجِدار عالم متوحش مليء بالأشباح والأنياب، فيهِ من الانتقام ما فيه، وفيه من الحروب والآلام ما فيه، لكنّ خرير المياه في الربيع كان يجذبُني، وحثيث الأشجار في الخريف وهي تتمايل من لمسةِ نسيمٍ عابرة تُحيي فيَ شوق الحياة، وتحرّك سرّ الحبّ في نفسي.
لم يكن شعوري بالأمان يومها إلا في ثقتي بإنسانٍ يحملني بين أحشائه، بين كبدهِ وفؤاده، في توحّدٍ وتآلف، فهمتُ أنّ عُمق الحياة في رباطٍ خالدٍ بين الحبيب ومحبوبه، في تمازجِ الأرواح في روحٍ واحدةٍ مُرفرفة في العلياء، لا تكاد تفرّق فيها بين الأرواحِ المتمازجة.
كان أكثر ما يرهبني استغاثات الأحياءِ أمثالي في جوفِ الليل وزمهريرِ الرياح، تُصارع المتهجمين على حقّ البقاء ليُلغوا من الدنيا زهوراً منثورةً على روض الحقول الخضراء، ثم يُشعلون النّار فيها حتى يذوبَ الرماد في الرماد، ويختلط الصراخ بالتراب، يُنزلون العقابَ بأيديهم باسمِ الفضيلةِ المدنّسة بالدّنس، لم أكنْ أنتظرُ قُدومي إلى هذا العالم بقدرِ ما أخافُ على حاملي منه، من العادلِ والظالم، من الخيرِ والشر، من القريبِ والبعيد، ممّا اقترفتْ أيدي مَن ينتظرون قدومَ الزّهر حتى يحفروا قبره، ويُحوّلوا فرحة قُدومه إلى عَزاء، من الحروب التي يرتفعُ فيها صوتُ الرصاص عالياً من كل نخلةٍ سامقة في تلال الثّمار الغنّاء.
من الإنسان الذي حوّلتهُ الحياة نفسُها إلى نسرٍ هائجٍ لا يعرفُ معنى عبارة حقّ البقاء، من الغُربة التي يَحياها الإنسان وهو في بلده بين أهله وأقرانه فلا يجدُ لغربته هذه إلا غربةً ثانيةً يُجاوز لأجلها البحار والجبال، من خيرٍ تأبّط شرّاً حتى لا تكاد تفرّق بين وجه الشرّ فيه ووجه الخير المُتواري خلف نظرات الغَدر الموروث، من فئةٍ تمنحها كل ثِقتك، فإذا بها هباء لا خيرَ تجلبه إليك، ولا شرّ تدفعُه عنك، ولا تسير بك إلى برّ الأمان هروباً من عاصفةٍ هوجاء إلا كما تسير السفينة على اليُبس بلا شِراع.
طالما سمعتُ قصص أمي ترويها لأختي الصغيرة التي لا تعرفُ النوم حتى يتسلّل الخوفُ إلى قلبها من شقوق الحكايات، عن قاتلٍ يختطفُ الصّغار في الليل فيضعُهم على ظهرهِ في كيسٍ من الثّوب ثم يَختفي، عن أمٍّ افتقدتْ كلّ أبنائها الصغار وهي عائدة إلى البيت تحملُ قوتَ يومها وإذا بها تجدُهم بعد بحثٍ طويلٍ جثثاً هامدةً في الغابة وسط الأحراش وخيوط العنكبوت، فانزوتْ وحيدةً تحت شجرة الصنوبر تبكي وتنتحب، كان أبي لا يُفارق قنوات الأخبار كما لا يُفارق سيجارته، ما كنتُ ألتقطه في أذني من الأنباء شيء فظيعٌ يُمزّق القلب.
أحقّاً يحدثُ في الخارج كلُّ هذا القتل وسفكِ الدّماء؟ أحقّاً يصدر كلُّ هذا الكره الدّفين والحقد البغيض من إنسانٍ يُشبهني؟ أتينا أنا وهو من وطنٍ واحدٍ استجْدينا الحياةَ فيه من حبلٍ وضيع؟ أحقّا يدُ الإنسان تقصفُ بالمدافع؟ تذبحُ بالسكين؟ تكبسُ على الأرواح بالزّناد وقد كانت أيادي الناس ترفعه إلى السماء ثم تحتضنهُ منتشيةً بقدومه كانتشائِنا بالربيع، أحقّا سأكونُ واحداً من هؤلاء؟ أتقاسمُ الخبزَ معهم؟ أبتسمُ في وجوههم؟ أرافقهم جنباً إلى جنبٍ في مسيرة العُمر الطويلة؟ وهل سأخرجُ مرغماً إلى الدنيا لأجد حبَّ الآخرين ونُبل أفعالهم، أم سأستبسلُ في الدّفاع عن ذكرى وجودٍ كنتُ فيه حرّاً طليقاً بلا قيود؟
سمعتُ أن أوّل جريمة على وجه الأرض كانت من صُنعِ إنسان، اقترفها في حقّ أخيه، ولم تتحمّل الأرضُ التي سُقيتْ بدماء الظّلم هَولَ الفاجعة فأنبتتْ أزهار الدّمع وأشجار الحَزَن، وجفّتْ أوراقُها بالبكاء فسقطتْ ذابلةً قبل مجيء الخريف، وبكتِ الجبال حتى انفجرتْ دموعُها عيوناً حفرتْ في الصّخر طرُقاً وفجاج، ومنذ ذاك اليوم، كان وصْل الإنسان بالدنيا حدّ الانتقام، وإن لم يكن كذلك فإرادة الانتقام، وحبّهُ للطغيان غدا إدماناً فاق كل الحدود، وتمادى فيه حتى خُيّل للمعذَّبين في الأرض أن ما من خيرٍ أتى إلى الدنيا بعد يوم الجُرم المشهود.
أتذكر المقامَ شهراً بشهر، ووعيي حينها يتفتَّحُ كالوردة ليَرى المحيطَ من وراءِ جدارٍ ويستشعرَ ماهيتَهُ يوماً بعد يوم، مثلما تحسُّ اليد بحرارة الإناء وهو يسخن فوق النّار على مَهْل، كان صراخُ طفلٍ بجانبي أقبلَ للتوّ على الدنيا فضيعاً، حادّاً، فقد ظننْتُ أن العالمَ مُريعٌ بالقدر الذي تستقبلُ فيه أولى شهقاتك بالصراخ، لكن سرعان ما تغيّر البكاءُ إلى هدوءٍ مُطبق، ثم عَلَتْ الضّحَكات من حوله وعمّ المكانَ بهجةٌ أراحتِ النّفوس، وطمأنَتِ القلوب، وتحوّلَ بكاءُ الطفل بسمةً وضّاءة، وكأنّ التفاؤلَ بدأ يدبُّ إلى نفسه شيئا فشيئا ليملأ أولى صفحاتِ حياتهِ البيضاء بحبّ الحياة، ومجابهة اليأس، والأمل في العطاء، فلو عَلمَ الإنسانُ أصلَه لما طغى وتكبّر.
ولفكّر ثم فكّر ألف مرّة قبل أن يُقْدمَ على إزهاقِ روحِ أخيه، أو سلبِ حقه والتجبّر عليه، لقد أتينا من وَهْنٍ وسننتهي إلى وَهن في أرذل العمر، وبينهما نعيش قوّةً وصلابةً تُعيدنا دائماً إلى ضُعف البداية وهوان المآل، فترقى النّفوسُ الحيّةُ عن كل قبيحٍ وقد عرفتْ قَدْرها، ذاكَ هو أكبرُ تحدّياتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.