بعد أن التقت أهداب عينيَّ صنيع أيادٍ بيضاء

كنت أمشي في أحد الشوارع التي يصح لو سميتها "شعبية"؛ لأن سكانها من أُناس الطبقة المتوسطة ودون المتوسطة، فكنت أرى دائماً ريثما أصلُ إلى مفترق من المفترقات، هيكل امرأة ينصبُّ تركيزها على فصل قسمات الخبز المتكسر والخضراوات الجافة التي يحسُن تناولها

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/26 الساعة 00:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/26 الساعة 00:43 بتوقيت غرينتش

في أثناء اليوم، قد يوقفك شيء على هيئة شخص أو حدث، أو ربما يكون معلومة، يجعلك تفكر مليّاً وتستغرق به فيما بين نفسك؛ فإما أن تهبط أو تصعد أو تبتسم أو تدمع. والحال هنا في تركيا أيضاً مختلف، فنحن نعيش عِيشة لا نستطيع وصفها بالروتينية؛ لأن هناك الكثير من المفاجآت والأشياء غير المألوفة التي تهبُّ لتواجهك في ساعات يومك الطويل.

منذ مدة وعندما كنت في مشوار العودة إلى المنزل، كنت أمشي في أحد الشوارع التي يصح لو سميتها "شعبية"؛ لأن سكانها من أُناس الطبقة المتوسطة ودون المتوسطة، فكنت أرى دائماً ريثما أصلُ إلى مفترق من المفترقات، هيكل امرأة ينصبُّ تركيزها على فصل قسمات الخبز المتكسر والخضراوات الجافة التي يحسُن تناولها، أو رجلاً يجول حول حاوية النفايات يحمل بين يديه بعض الأكياس التي تعرف من النظرة الأولى لها أنها خضعت لإعادة تدوير بسيطة قبل قليل.

كنت أستغرب مشهد الرجل جداً وأستهجن فعله في ذل الوقوف على فضلات الآخرين بدلاً من أن يبحث عن عملٍ يكتنفه ويلبي به حاجة المعيشة ويحفظ له ماء وجهه وكرامة وجوده.

لا أنسى أن قلبي كان يتدفق بمشاعر الشفقة والعطف حال وقوع عينيَّ على طرف وجه زوجته وابنته الصغيرة، وكنت أحرص على ألا أطيل النظر إليهما؛ كي لا أجرح مشاعرهم، وأُحرج قلة حيلتهم، ولم ألبث إلا أن أحسب الانعكاسات السيئة التي ستلف هذه الطفلة حينما تكبر بسبب هذه البيئة التي ترعرعت بها.

في مساء هذا اليوم، وحين كنت أمشي في ذلك الطريق نفسه، رأيت شيئاً لم يسبق أنني رأيته؛ لذا وقفت أنظر فيه لثوانٍ قليلة؛ ومن ثم استأنفت أُكمِل طريقي مجدداً، إلا أن ذهني أبى إلا أن يبقى واقفاً معه.

لمحت ملامح امرأة شابة، من الواضح أنها كانت تنقل بعض مخلّفات أسبوع منزلهم إلى داخل الحاوية، وكانت تحمل بين أطراف أصابعها عدداً من الأكياس التي بدت لي أنها نظيفة وتضمُّ بداخلها طعاماً صالحاً للأكل، وقفتْ لتضعه وتحيط به تلك الدائرة التي تقع على مقربة من الحاوية، وانتبهتُ فيما بعد رحليها لأكياس أخرى كثيرة ومشابهة للذي قامت بجلبه، ثم لاحظت على يساري أيضاً كيسَين آخرين يتعلقان بأسفل مشجب الشجرة.

أُعجبت بهذا الفعل الكبير واستحسنت اهتمام أولئك الحريصين على حفظ بقايا طعامهم من الأوساخ والعفن، وقاموا بتسهيل وصوله وفصله عن التالف، وهكذا حين يأتي الليل ويتوارى البشر خلف الظلام، سيخرج كل من حجب عنا جوعه وتفاقمت حاجته ولا ندري بحاله.

فكانت الرؤية بالنسبة لي كمن جلس في كبد بقعة قاتمة، يشاهد فاقة تلك المرأة الأم وتلك المرأة الزوجة وذلك الرجل الأب والطفلة الابنة، ليلاحظ بعد زمنٍ عدد الأيدي التي تركت بصمتها في المساعدة، فانكشف له النور الأبيض وقال: لن نعدم النور طالما نملك مصباح الإنسانية.

والأمر في النهاية ليس بطول الجهد في العمل؛ بل بالمعنى الذي حققه العمل، وكلما كان المعنى أسمى كان العمل بالتقدير أجدر، وليس هنالك في الحياة أكثر سِمواً بذواتنا من الرحمة والبِرّ والإحسان.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد