كنت جالسا في مقهى قريب من بيتي، فسألتني جارتي التركية: هل تتابع ما يثار من نقاش حول حوادث الاعتداء الجنسي على الأطفال، والموقف من عقوبته؟ فأجبتها بالنفي، فلا دراية تامة لي باللغة التركية كي أتابع جيدا ما يدور فيها من أحداث دقيقة بهذا الشكل، فغالبا نحن نتابع الشأن السياسي العام.
قالت: هو مثار نقاش هذه الأيام، فقد حدثت حوادث متكررة من الاعتداء الجنسي على الأطفال، وهو ما يثير سخط شريحة من الشعب، ثم توجهت لي بالسؤال: ما حكم من يعتدي جنسيا على الطفل؟ ثم سألت بعض المعنيين بالشأن التركي، فوجدت الموضوع مثارا فعلا، وهو ما يستحق الحديث فيه.
أجبتها اختصارا بما أوضحه هنا بشيء من التفصيل بما يعطي فكرة عن الموقف الشرعي من مثل هذه الجرائم، وموقف الشرع من جرائم الاعتداء الجنسي سواء كانت على الأطفال أم النساء أو الرجال.
يفرق الإسلام بين العقوبة التي تتم بالإكراه أو باستخدام السلاح، أو استخدام القوة بمختلف درجاتها باستضعاف المجني عليه، وبين العقوبة التي تتم برضا الطرفين، فالزنى مثلا، إذا كان بين رجل وامرأة برضا تام، فهنا العقوبة الجلد مائة جلدة، كما بين القرآن الكريم: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) النور: 2، هذه عقوبة غير المحصن، والجمهور يرى رجم المحصن، وإن كنا لا نميل لهذا الرأي، ونرى الرجم تعزيرا لا حدا.
أما الزنى بالإكراه، وهو الاعتداء الجنسي، فعقوبته في الشرع الإسلامي: الإعدام، وهو يدخل في باب (الحرابة) في الفقه الإسلامي، والذي قال فيه تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة: 33، فمن سعى في الأرض فسادا بالقتل أو الزنى بالإكراه فجزاؤه الإعدام، وهو ما جعل دار الإفتاء المصرية في مصر تنتهي إلى عقوبة تاجر المخدرات بالإعدام، لأن القاتل الذي يقتل بالسلاح يقتل شخصا، بينما من يتجر بالمخدرات فهو يقتل عشرات الناس، فاستحق هذه العقوبة.
والأمر يزداد شدة في الشرع كلما كان المعتدى عليه ضعيفا لا يملك حق الدفاع عن نفسه، فإذا كان المعتدى عليه جنسيا طفلا، فتكون العقوبة مشددة هنا، وقد ترك الشرع هذا التقدير في العقوبة بحسب قسوة وفظاعة الجرم المرتكب، فإعدام المعتدي جنسيا على الأطفال عقوبته تعزيرية، تترك لتقدير الدولة والقانون والمجتمع، وفي مثل هذه الجرائم لا يملك أحد العفو فيها عن الشخص، لأنها أصبحت جريمة تتعلق بحقوق الطفل المعتدى عليه، وحقوق أهله، وحق الدولة، وحق المجتمع، وكل هذه الحقوق تزيد من تغليظ العقوبة على مرتكبها لتصل لأقسى درجاتها، وهي الإعدام. شريطة أن يثبت ذلك فعلا على مرتكب الجريمة، وفي ظل تحقيق نزيه بكل أدوات التقاضي والإثبات المكفولة شرعا وقانونا.
وهذه العقوبة لا يوصف فيها الفقه الإسلامي بالغلظة، بل الفقه الإسلامي متسق مع نفسه في التشريع في هذه المسألة وغيرها، فنظرة الإسلام للإكراه نظرة شديدة في كل المجالات، بداية من الإيمان بالله، ونهاية بأي قضية أخرى فيه، فإيمان المكره لا يقبل، فلو أن إنسانا أكره على الإيمان بالله، لا يقبل منه ذلك يقول تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256، ومن أكره على الكفر كذلك لا يعد كافرا (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106.
والإمام الذي يصلي بأناس لا يحبونه أمر مرفوض في الإسلام يقول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا واحدا: رجل أم القوم وهم له كارهون" والحاكم الذي يحكم شعبا بالإكراه ولايته باطلة، وحكمه باطل، والصلاة في ثوب مغصوب موضع نقاش كبير بين الفقهاء هل تقبل أم لا؟ وهل يعيد الصلاة أم لا، وزواج المكرهة في الإسلام باطل، وطلاق المكره لا يقع.
والعقوبات في الإسلام تهدف إلى ردع كل مجرم، وبخاصة عند استخدام الإكراه والعنف مع الناس في الجريمة، وبخاصة أهل الضعف، مثل: الأطفال والسجناء، والمرضى، وذوي الحالات الخاصة، وغيرهم من حالات الضعف، فتختلف العقوبة هنا، وتزداد لتصل لأقسى درجاتها حتى يرتدع كل من تسول له نفسه ممارسة مثل هذا الجرم البشع
هذه التدوينة منشورة على موقع عربي21
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.